بسم الله الرحمن الرحيم
يوسف المغلوب على أمره (4) .. ومع السقاية والصواع والمتاع
نأخذ مثالاً على مراعاة القرآن لسبب التسمية من سورة يوسف عليه السلام؛ وهو تسمية أداة الكيل بالسقاية، ثم الصواع، ثم المتاع؛
ففي قوله تعالى: (فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَـاـرِقُونَ (70) يوسف
سُميت أداة الكيل بالسقاية، والسقاية من مادة "سقي" وهي إحضار الشراب للشارب في مكانه الذي يكون فيه، لذلك كانت أداة الكيل يؤتى بها إلى دواب أخوة يوسف؛ لإفراغ ما فيها في أوعيتهم وهي مثبتة على ظهورها، فسهل دسها وإخفاؤها في رحل أخيه في غفلة من أخوة يوسف عليه السلام، ورجع الفتيان دونها، من غير أن يلحظوا المكيدة التي دبرت لهم....
أما في قوله تعالى: (قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72) يوسف
فقد سميت نفس الأداة بالصواع، والصواع من مادة "صوع" وهي مادة للتفريق.
فما الأثر عليهم من اتهامهم بسرقة الصواع ؟ ....
لقد نفوا عن أنفسهم الإفساد في الأرض أولاً قبل نفي السرقة ثانيًا، لأن الإفساد في الأرض أعظم من السرقة نفسها؛
: (قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَـاـرِقِينَ (73) يوسف.
انظر إلى دلالة كلمة صواع ... كيف أرهبتهم؟!
لمن الصواع؟ .... للملك.
وعلى من يفرق الملك؟ .... على الرعية.
وماذا يعني ضياعها ؟ .... تعطيل شئون الرعية.
وماذا يسمى هذا الفعل؟ .... إفساد في الأرض لكثرة المتضررين منه.
وما المكافأة لم يأت به؟ .... حمل بعير .... وهو ثمن أكثر من ثمن الأداة نفسها.
هل حمل بعير فقط ؟ .... لا .... وتغطية على فاعله حتى لا يصل خبره إلى الملك،
والزعم خلاف ما وقع، لئلا ينال الفاعل عقابًا شديدًا من الملك على فاعله....
فهل تصلح سقاية محل صواع في هذا الموضع؟ أو تصلح صواع محل سقاية؟
وانظر كيف ضخم ذنبهم بتسمية أداة الكيل بالصواع ونسبته إلى الملك .... لينتزع منهم الحكم باستعباد أخيه، ليبقيه عنده؛
قال تعالى: (قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَـاـذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّـاـلِمِينَ (75) يوسف.
الحكم كان منهم على أخيهم، فضمن بذلك عدم رفع شكوى من أخوة يوسف للملك بالعزيز،
أما في قوله تعالى:
فلما صُدم أخوة يوسف باستخراج الأداة من رحل أخيهم، وقد حكموا باستعباده من قبل أن يدركوا عواقب هذا الحكم؛ لذلك قالوا: (يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَـاـفِظِينَ (81) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ..(83) يوسف.
فقد أوقعهم هذا الحدث في مشكلة كبيرة مع أبيهم، بعد الذي فعلوه من قبل بيوسف عليه السلام.
فما الحل عندهم للرجوع بأخيهم حتى لا يفجع أبوهم بمصاب فقْد الابن العزيز الآخر ... وقد رأوا ما أصابه من فعلتهم الأولى ... بل إن عشرات الملايين دمعت عيونهم متأثرة بفاجعة فقدان يوسف على يعقوب، وكأن المصاب الذي أصابه أصابهم، وكأن الحدث حي ماثل أمامه لم تبرد حرارته في النفوس: (قَالُواْ يَـاـأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَـاـكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) يوسف
أرادوا أن يبادلوه بأي أخ له منهم، وكأنه بضاعة، فكان رد العزيز عليهم: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَـاـعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَـاـلِمُونَ (79) يوسف
فقد سميت أداة الكيل في هذا الموضع بالمتاع .
فلماذا سميت الأداة بالمتاع؟
الأشياء تنقسم إلى قسمين؛ قسم يتبادله الناس، ويتنقل بينهم بالبيع والشراء؛ فيسمى بالبضاعة.
وقسم يكون خاصًا بصاحبه، ولا يعرض للبيع والمبادلة؛ فيسمى بالمتاع.
فالمتاع هو الشيء الخاص الذي لا يشارك صاحبه فيه غيره، ولا ينتقل من يد إلى أخرى تملكه... خلاف البضاعة التي يتغير ملاكها، وتنتقل من يد إلى أيد أخرى ...
وعقاب السرقة خاص بالسارق، فكيف يعف عن السارق، ويبدله ببريء يوقع عليه جزاء السرقة وذنب لم يقترفه؟! ... هذا من الظلم، ويصبح من يفعل ذلك من الظالمين... فتعوذ العزيز بالله من فعل ذلك.
انظر إلى التسميات الثلاثة للمكيال ؛ (سقاية – صواع - متاع)، تجدها هي الأفضل والأنسب في مكانها، ولا تصلح واحدة منها مكان أخرى، ولا تسد مسدها، مع أنها أسماء لشيء واحد.
إننا نكتفي في استخدامنا للأسماء إذا دلت على ذات الشيء المراد نفسه، ونكون مسرورين بذلك ... لكن القرآن المعجز في لغته يراعي فوق ذلك .... يراعي سبب تسمية المسميات بأسمائها، ويضعها في المكان المناسب لها .... فمن يقدر على فعل ذلك في كل بيانه سوى الله سبحانه وتعالى ؟!
سبحانه وتعالى الذي علم الإنسان البيان.
ما السرقة التي قام بها يوسف عليه السلام من قبل؟!
تساؤل يحتاج إلى إجابة لبيان احتمالات هذا الاتهام دون إسرائيليات؛
قال تعالى: (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) يوسف.
قد تُعلل سرقته في نظرهم للتخلص من أخوته، واستبقائه عند العزيز بعيدًا عنهم، وسالمًا من آثار المجاعة في ديار أبيه ... (أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) يوسف،
ولعلهم أيضًا لاحظوا اهتمام العزيز به، وتفضيله عليهم، فالبقاء عند العزيز مكسب له ونعمة كبيرة، وقد قال لهم من قبل: (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) يوسف.
فكثير من الناس ينظرون إلى إخوانهم الذي يأخذون من المال التي ينفقونها على آبائهم؛ كأنهم يسرقون هذا المال من آبائهم الذي هم في حاجة إليه.
فقارنوا حالهم الحاضر مع حالهم مع يوسف عليه السلام من قبل... هم يذهبون للرعي، ويوسف جالس في حضن أبيه، قد استحوذ على محبته، فيشرب مما يحلبون، ويلبس مما يجزون، وقد استحوذ على حب أبيهم من دونهم.
وهذا الأخ الثاني يستحوذ على اهتمام العزيز، ويسرق ليبقى عنده، مستريحًا من عناء السفر، وعواقب شدة القحط. والله تعالى أعلم
المفضلات