الدكتور محمد خطاب سويدان
الدكتور محمد فتحي حريري
الاديب سعيد نويضي
الباحث عبد الوهاب موسى
السادة المشاركين
على عجالة بعناوين وتفصيلات ارجوا أن تكون غير مملة لأني أراها في الصميم
ومنها الصوفية منقولة من أساتذتي بتصرف
المعجزة : تكون فقط على يد الرسول
الكرامة : ماهو من خوارق العادات على يد إنسان صالح .
وإذا كانت على يد إنسان فاجر فهي استدراج
والكرامة لها شروط :
1- أن لايتباهى بها
2- أن تجري على يد رجل صالح تقي
فالإمام الجنيد يقول :
إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ,أو يطير بالهواء ,فأعرضوا سلوكه على كتاب الله ,فإن وافق ذلك فهي كرامة ,وإن لم يكن ذلك فهي استدراج .
تصديقاً لقوله تعالى " فلما نسوا ماذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء "
"إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته "
ويقول بعض العارفين " الإستقامة عين الكرامة "
عقيدتنا من منظمومة جوهرة التوحيد :
وأثبتن للأولياء الكرامة
ومن نفاها فانبذن كلامه
معاني الوحي :
"ماكان لبشر أن يكلمهم الله إلا وحيا , أو من وراء حجاب ,أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه مايشاء ,إنه عليم حكيم "
1- إما عن طريق جبريل
2- الإلهام " وأوحينا الى أم موسى أن أرضعيه "
3- الفطره " واوحى ربك الى النحل ان اتخذي من الجبال بيوتا...."
4- الحدس "لكل أمة محدسين وغن يك فيكم فعمر "
الولي :
ألا ان أولياء الله لاخوف عليهم ولا هم يحزنون ,الذين آمنوا وكانوا يتقون "
"ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون "
"والذين آمنوا بعضهم اولياء بعض "
ورحم الله حجة الإسلام المتصوف الحق أبي حامد الغزالي حين قال :
"تعلمنا العلم لغير الله ,فأبى إلا أن يكون لله "
ناقش المعتزلة ودحض أفكارهم المنحرفة فقط .
وكان قريبه الزمخشري من جماعة وصل بن عطاء الذي اعتزل الإمام حسن البصري .
قال حجة الإسلام برسالة للزمخشري :
1- قل لمن يفقه عني ماأقول
ضربت والله أعناق الفحول
2- أين منك العقل واللب الذي
قد حار فيه أصحاب العقول
3- انت أكل الخبز لاتعرفه
كيف يجري منك أم كيف تبول
4- كيف تدري من على العرش استوى
كيف استوى كيف النزول
5- قل لي ياجهول ؟؟؟؟
فكان جواب الزمخشري
1- يامن يرى في البعوض جناحه
في ظلمة الليل البهيم الأليل
2- ويرى نياط عروقها في نحرها
والمخ في تلك العظام النحل
3- أمنن علي بتوبة أمحوا بها
ماكان مني في الزمان الأول
الصوفية: رد فعل للترف الذى غشى المجتمع العباسى.. فإن " المتطهرين " من ذل المجتمع ، الذين هالهم الفساد الذى يسرى فى المجتمع من الترف والمجون ليعيشوا حياة نقية طاهرة.. مع الله.
وبصرف النظر عما دخل فى الصوفية من أفكار ، ودفعات يهودية ونصرانية وجوسية وهندوكية.. فما بنا أن ننكر أن دافعها الأصلى كان هو اعتزال الفساد السارى فى المجتمع ، والخلوص إلى حيث الطهارة والقاء.
ولكن الصوفية ذاتها نزعة منحرفة عن النهج الإسلامى الصحيح.
فلئن كان فيها نزوع إلى تزكية الروح وهو من الإسلام ونزع إلى الترفع عن متاع الأرض وهو من الإسلام ونزع إلى ذكر الآخرة وهو من الإسلام فإن فيها سلبية وانعزالية ليست من الإسلام ، وإهمالا للحياة الدنيا ليس من الإسلام.
إن الصوفية فى حقيقتها عملية " هروب " من مواجهة الواقع ومجالدته ، هروب إلى " عالم خاص " من صنع الوجدان ، ينعم فيه الإنسان " بمشاعر " القرب من الله وهما أو حقا فيقعد عن " العمل " اكتفاء بتل المشاعر التى تختصر له الطريق!
إن " الأعمال " وسيلة للقرب من الله. ولكن ما حاجة " الواصل " إلى الوسيلة وقد وصل بالفعل؟!
كذلك يقعد الصوفية عن العمل والكدح فى واقع الحياة الدنيا ، كما يقعدون عن مجالدة الواقع المنحرف لرده إلى سواء السبيل ، ويكتفون بتلك المشاعر التى تخيل إليهم أنهم قريبون من الله ، واصلون إليه ، عائشون فى حضرته ، سابحون فى نوره.. فلا يبتغون وراء ذلك شيئا لأنه ليس وراء ذلك شئ!!
إنها مشاعر يمكن بالفعل أن تستغرق حسن الإنسان فيغرق فيها ولا يفيق.
ثم إن التدريب الروحى يفتح للإنسان عالما من الأعاجيب. فكما أن التدريب الجسدى يعطى الإنسان قوة وقدرة ، واستمتاعا بتلك القوة والقدرة ، وكما أن التدريب العقلى ينشط الذهن ويسكبه قدرة على الاستيعاب والفهم ، واستمتاعا بتلك القدرة كذلك ، فكذلك التدريب الروحى يعطى الإنسان شفافية وإشراقا ، وإنسياحا وراء السدود والحواجز الحسية إلى عالم فسيح لا تحده حدود ، واستمتاعا بذلك كله يغرى بالمزيد!
ولكن الإسلام لا يقبل تلك " الغيبوبة "!
لقد جاء الإسلام " لمهمة " معينة فى الأرض.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [سورة الحديد 57/25]
وقيام الناس بالقسط لا يتأتى بمجرد الرغبة فى ذلك ولا بمجرد التمنى ، كما أنه لا يتم شئ فى حياة الإنسان كلها بمجرد الرغبة ولا مجرد التمنى ، إنما لابد من جهد يبذل لتحقيق الرغبة ، وتحويل الأمنية إلى واقع محسوس.
والمسلمون بالذات هم الذين حملهم الله مسئولية " العمل " لإخراج البشرية كلها من الظلمات إلى النور بمقتضى الكتاب المنزل إليهم:
{الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [سورة إبراهيم 14/1]
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [سورة البقرة 2/143]
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ} [سورة آل 3/104]
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [سورة آل 3/110]
والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذى هو خلاصة حركة الدين فى واقع الأرض جهد محسوس يبذل فى واقع الحياة ، وموقف إيجابى من كل شئون الحياة.
وهنا مفرق الطريق بين الصوفية وبين الإسلام!
الصوفية انعزال سلبى ، والإسلام مواجهة إيجابية.فى الإلام دعوى صريحة إلى الترفع عن متاع الأرض:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)} [سورة آل 3/14-16]
وفى الصوفية كذلك دعوى إلى الترفع عن متاع الأرض والاكتفاء منه بأقل القليل.
ولكن فيم تنفق الطاقة الهائلة المتجمعة فى النفس من ممارسة هذا الترفع عن متاع الأرض؟
فى الإسلام تنفق الطاقة فى تحقيق " القيم العليا " فى دنيا الواقع ، وفى الصوفية تنفق فى تحقيق تلك القيم فى سبحات الروح وإشراقات الوجدان!
إحداهما تصلح الواقع بالفعل. تصلح الفرد والمجتمع ، وترفعهما من الواقع الأدنى المتمثل فى المجال الحسى الغليظ ، إلى الواقع الأعلى الذى تنطلق فيه كل طاقات الإنسان: جسده وعقله وروحه ، للقيام بمهمة الخلافة ، وعمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى ، التى هى حقيقية " العباد " بمعناها الشامل الواسع ، والتى يتحقق بتحقيقها الكيان الأعلى للإنسان.
والأخرى تترك الواقع بكل ما فيه من سوء ، لا تتعرض لإصلاحه ، وتعزل عنه فى محاولة لإصلاح الذات ، محاولة قد تنجح فى جانب من الجوانب هو الجانب الروحى ولكنها تفقد الإنسان توازنه الذى خلقه الله عليه وخلقه له ، وتفقده واقعيته وإيجابيته ، فضلا عن صرفه عن القيام بالتكاليف التى فرضها الله " ليقوم الناس بالقسط " وليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
أرأيت لو أن طاقة كامنة يمكن بها استثمار قطعة واسعة من الأرض ، تنزع منها حشائشها الضارة ، وتحرثها وتسقيها ، وتستنبت فيها البقول والأشجار ، والورود والأزهار ، ليعيش من حصيلتها مجموعة من الناس ويستمتعوا بطبيباتها ، أنفقت فى حرث ركن منعزل من الأرض ، وترك سائرها لتنتشر فيه الحشائش والحشرات ويأوى إليه شذاذ الآفاق.
أى تبديد للطاقة.. وأى صرف للجهد عن الإصلاح؟!
ذلك مثل الصوفية فى تبديد الطاقة البشرية وإن ظنت أنها تجمعها وتركزها!
ذلك مثلها فى صرف الجهد عن إصلاح الحياة البشرية وإن ظنت أنها تقوم بالإصلاح.
إن الإنسان مهما فعل لن يستطيع أن يعبد الله على طريقة الملائكة: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (20)} [سورة الأنبياء 21/20]
والله من حكمته ورحمته لم يكلف الإنسان أن يعبد الله على طريقة الملائكة ، وإلا لخلقه ملكا منذ البدء ، نورا شفافا بلا جسد طينى ينزع ، ولا فكر ينشغل بأمور الحياة.
ولكنه ، من حكمته ورحمته ، وقد خلقه من قبضة من طين الأرض ، ونفخة من روح الله ، وجعل له جسدا يتحرك بالرغبة ، وعقلا ينشغل بالتفكير ، وروحا طليقة ترفرف ، كلفه عبادة من نوع خاص غير الملائكة من ناحية ، والعجماوات والجمادات من ناحية أخرى. عبادة يجتمع فيها كيانه كله: جسده وعقله وروحه. وجعل كل نشاط جسده عبادة ، وكل نشاط عقله عبادة ، وكل نشاط روحه عبادة ، إذ توجه بذلك كله إلى الله ، والتزم فيه بما أنزل الله:
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ...} [سورة الأنعام 6/162-163]
وحين يفعل ذلك فهو فى أعلى حالاته ، وأقربها إلى الله ، وأجدرها برضا الله.
ودليلنا هو أعبد عبد لله ، أعظم بشر خلقه الله ، محمد صلى الله عليه وسلم
"ألا أنى أعبدكم لله ، ولكنى أصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى " ( ).
هل يستطيع بشر بعد هذا النص أن يزعم أنه أعبد له من محمد رسول الله؟!
فيكف كانت عبادته ؟!
فأما خلوته مع ربه ، فقد كانت يتعبد حتى تتورم قدماه الشريفتان ، فتقول له عائشة رضى الله عنها: هون عليك يا رسول الله فقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر: فيقول قولة العابد الواصل فى العبادة إلى الأعماق: أفلا أكون عبدا شكورا؟! ( )
ومع ذلك.. فكيف كان ؟
كان أكبر طاقة إيجابية عرفتها الأرض..
والرسول هو أسوة المسلمين إلى قيام الساعة ، وهو الترجمة الواقعية لهذا الدين فى أعلى صوره.
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)} [سورة الأحزاب 33/21]
والصوفية تقول إنها ترجوا الله واليوم الآخر وتذكر الله كثيرا!.. فلماذا لا تتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم فى إيجابيته وفاعليته وواقعيته ، ومجابهته للواقع السيئ لهدمه والقضاء عليه ، وإنشاء الواقع الصحيح بدلا منه؟! ( ).
هذا هو الفارق بين الإسلام والصوفية.
هنا إيجابية وهناك سلبية ، هنا مواجهة وهناك عزلة. هنا " زهد " فى متاع الأرض مع إباحته وممارسته ، وهناك إنزواء عن المتاع يقتل الرغبة ويصيب النفس كلها بالذبول.
ومع الصوفية ينشأ التواكل بدل من التوكل.
التوكل على الله من صميم الإيمان ، وقد تردد ذكره فى القرآن مربوطا بالإيمان:
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (160)} [سورة آل 3/160]
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [سورة الأنفال 8/2]
ولكن التوكل ككل شئ فى دين الله طاقة إيجابية دافعة ، يقوم به المؤمن مع اتخاذ الأسباب.
{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [سورة آل 3/159]
والعزيمة فى شأن القتال خاصة ، وهو الذى وردت بمناسبته الآية الكريمة تقتضى إعداد العدى واتخاذ الأسباب.
أما التواكل الذى تمارسه الصوفية وتقول عنه إنه توكل ، فهو ككل شئ فى الصوفية صورة سلبية معطلة ، تتقاعس عن اتخاذ الأسباب متذرعة بالتوكل على الله.
لقد أفسد التواكل كثير من عقيدة القضاء والقدر ، وحولها من عقيدة إيجابية دافعة إلى عقيدة سلبية مخذلة ، وإلى الرضاء السلبى بالواقع وعدم محاولة التغيير.
كان الله يعلم الجيل الأول رضوان الله عليهم {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (51)} [سورة التوبة 9/51]
فيعلمون أنه ليس ذهابهم إلى القتال هو الذى يقتلهم ، إنما هو القدر المقدر عند الله هو الذى يصيبهم أينما كانوا ، فيندفعون بكل قوتهم للقتال.
وكان يعلمهم: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [سورة الأنفال 8/59-60]
فيعلمون علما يقينيا مؤكدا أن الله لن يحقق للكفار مسعاهم فى هدم هذا الدين والقضاء عليه ، بل سيمكن لدينه فى الأرض ، ومع ذلك يعدون ما استطاعوا من قوة ، أى يبذلون الجهة ويتخذون الأسباب ، ولا يقولون لأنفسهم: ما دام الله سيمكن لدينه فذلك حسبنا ، ونتوكل عليه فلا نعمل!
وكان يعلمهم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ...} [سورة آل 3/165-166]
فيعلمون أن وقوع الأمر بقدر من الله لا يخليهم من مسئوليتهم عن أعمالهم حين يخطئون أو يسيئون التقدير.
وكان يعلمهم: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} [سورة آل 3/172-173]
فيتعلمون أن وقوع قدر الله بالهزيمة ليس معناه الاستسلام للهزيمة والقعود فيها بحجة أنها قدر من عند الله ، إنما معناها السعى الإيجابى لتغيير هذا الواقع مع التوكل على الله ، رجاء تغيير القدر الأول بقدر جديد , وبذلك كله كانت عقيدة القدر فى حياة المسلمين الأوائل قوة دافعة محركة إلى الأمام.
ولكن تواكل الصوفية حولها إلى غير ذلك ، قعودا عن الأخذ بالأسباب بحجة أن " مالك سوف يأتيك "! وتخليا عن مسئولية الإنسان عن عمله بحجة أن ما وقع منه قد وقع بقدر من الله! وقعودا عن تغيير الواقع السيئ من مرض أو عجز أو فقر أو ذلك أو ضيم بحجة أنه ما حدث إلا بقدر من الله ولو شاء الله غير ذلك لكان!!
ومع الصوفية كذلك ينشأ القعود عن تعمير الأرض ، بحجة أن الدنيا ملعونة ، والمعول عليه هو الآخرة! وأن الإنسان حسبه فى هذه الدنيا عيشة الكفاف، لكى ينجو بروحه من التعلق بالدنيا ، ولكى يفرغ لتزكية روحه استعداد للآخرة!
ولا شك أن الدعوة إلى التقلل من متاع الأرض ، وعدم " التعلق " بالدنيا هى دعوة إسلامية أصيلة ، وهذا هو " الزهد " الذى أشرنا إليه من قبل. ولكن الانصراف عن عمارة الأرض قضية منفصلة ومختلفة عن عدم التعلق بالحياة الدنيا.
لقد ركب الله فى النفس البشرية دوافع إلى العمل والنشاط فى صورة رغبات وشهوات أبرزت الآية الكريمة أهمها أو أشدها سيطرة على الإنسان:
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [سورة آل 3/14]
ولم يخلق الله هذه الدوافع عبثا ، تعالى الله عن العبث..
ولم يخلقها ليقتلها الإنسان من جانبه بحجة تزكية الروح..
إنما خلقها لتعينه أو لتدفعه لعمارة الأرض ، التى هى جزء من الخلافة التى خلق الله الإنسان من أجلها:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة 2/30]
{هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [سورة هود 11/61]
صحيح أن هذه الشهوات مهلكة للإنسان إذا مضى معها إلى آخر الشوط ولم يلتزم " بالحدود " التى رسمها الله ، وقال عنها: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [سورة البقرة 2/229] {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [سورة البقرة 2/187].
لذلك خلق الله فى النفس البشرية ضوابط تضبط اندفاع تلك الدوافع ، منها العقل والإرادة الضابطة ، ومعرفة الطريقين والقدرة على اختيار أحدهما:
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) } [سورة الشمس 91/7-10]
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} [سورة البلد 90/10]
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)} [سورة الإنسان 76/3]
ثم ذكر الإنسان بالآخرة ، والبعث والحساب والجزاء ، ليكون ذلك معينا له فى ضبط شهواته والالتزام فيها بالحدود التى رسمها الله ، والتى يعلم سبحانه أن فى داخلها الأمن والأمان والفلاح ، ويعلم سبحانه كذلك أن الالتزام بها هو الذى يرفع النفس البشرية ويظهرها ، ويعينا على عمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى.
وعلى الرغم من وضوح المنهج الربانى فى هذه النقطة ، فإن الصوفية تسعى إلى " قتل " الدوافع البشرية بدلا من تهذيبها وضبطها ، وتدعو إلى " إهمال " الحياة الدنيا بحجة التقرب إلى الله وابتغاء مرضاته.
ولو كان هذا هو الإسلام لهدانا إليه رسول الله .
يستلون بقوله : " الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر الله أو عالم أم متعلم " ( ).
وبأن الله ذم الدنيا فى كتابه المنزل وقال عنها {مَتَاعُ الْغُرُورِ} [سورة آل 3/185].
ولا شك أنه ورد فى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ذم للدنيا أو لعن لها.
ولكن مراجعة السياق الذى ورد فيه مثل هذا الذم تكشف لنا بوضوح أن الدنيا تذم أو تلعن فى مجالين اثنين ، حين تصد الإنسان عن الإيمان بالله وتدفعه إلى الكفر به ، أو تصده عن الجهاد فى سبيل الله:
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)} [سورة النحل 16/106-107]
{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)} [سورة التوبة 9/24]
أما فى غير هذين المجالين فليست الدنيا مذمومة ولا ملعونة ، ما دامت لا تصد عن الإيمان بالله أو الجهاد فى سبيل الله.
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة الأعراف 7/32]
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [سورة القصص 28/77]
صحيح أن التعلق بالدنيا يؤدى إلى معصية الله. وهذا هو المعنى الذى ركز عليه الصوفيون أشد التركيز ، وجعلوا الدنيا ملعونة من اجله ، ولكن قتل النفس من جهة أخرى مخافة الوقوع فى المعصية يوقع فى معصية من نوع آخر ، هى القعود عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وعن مجالدة الباطل والعمل على إزهاقه ، وعن عمارة الأرض بمقتضى منهج الله.
وحين يعمل الإنسان فى هذا الحقل ، وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والجهاد لتكون كلمة الله هى العليا ، وعمارة الأرض بمقتضى المنهج الربانى ، ثم تقع منه الأخطاء والمعاصى غير متعمد لها ولا متبجح بها ، ثم يستغفر الله عنها ويجاهد لكى لا يقع فيها ، فذلك هو الذى قال الله فيه:
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)} [سورة آل 3/135-136]
وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" والذى نفسى بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم!" ( ).
وحين تجلس ساكنا وتحمل فوق رأسك سلة مملوءة بالأشياء فلا يقع منها شئ ، فقد حافظت على ما فى السلبة بالفعل ، ولكنك فى سبيل المحافظة عليها تعطلت عن الحركة المطلوبة منك وليست هذه هى البراعة إنما البراعة أن تتحرك وأنت تحمل السلة على رأسك وتحاول جاهدا ألا يسقط منها شئ. فإن تساقط منها شئ أسرعت إلى إعادته فى السلة وعاودت المسير.
ولمثل هذا خلق الله الإنسان. جمله الأمانة ثم أمره بالسير فى مناكب الأرض وهو يحمل الأمانة ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويجاهد لكى يقوم الناس بالقسط ، ولكى تكون كلمة الله هى العليا ، ويعمر الأرض بمقتضى المنهج الربانى.. ثم كان من رحمته سبحانه وتعالى وهو يعلم ضعف الإنسان أنه يغفر ما يقع فى أثناء ذلك من الذنوب ما دام العبد لا يصر عليها ، وما دام يستغفر ويتوب ، فيتم " الإنتاج " المطلوب والإنسان فى أرفع حالاته ، وأقربها إلى رضوان الله.
أما القعود عن الإنتاج ، أو حصره فى أضيق نطاق ممكن بحجة تجنب المزالق ، فليس هو الذى أمر به الله..
ومن جهة أخرى فإن حصر الإنتاج فى أضيق نطاق ممكن وهو نطاق الكفاف يجعل الدولة كلها تعيش فى حالة الكفاف ، ولا يجعل لديها " الفائض " الذى تنفقه فى متطلبات " التمكين فى الأرض ".
إن التمكين فى الأرض هبة الله للمؤمنين:
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [سورة النــور 24/55]
ولكن له تكاليف...
فإلى جانب عبادة الله وحده بلا شريك، وتحكيم شريعته وحده، وهما المقتضى العملى للإيمان الصحيح، فهناك تكاليف حسية ومادية :
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)} [سورة الأنفال 8/60]
فإذا عاش مجموع الناس عيشة الكفاف، ولم ينتجوا إلا فى حدود الكفاف، فكيف للدولة المسلمة أن تعد ما استطاعت من قوة لإرهاب أعداء الله، تلك القوة التى لا يستمر التمكن فى الأرض إلا بها؟
إنما يحتاج الأمر إلى الإنتاج الوفير والاستهلاك القليل.. وهذه هى المعادلة التى يتم بها التمكين فى الأرض والمحافظة عليه. أما الإنتاج القليل على قدر الاستهلاك القيل فلا يؤدى إلا إلى فقر مجموع الأمة، الفقر الذى يؤدى إلى الضعف، والضعف يحرك شهوة الأعداء الذين ينتظرون الفرصة السانحة للانقضاض.
وإلى جانب ذلك كله، فيحن يعتزل المتطهرون المجتمع وينعزلون عنه ليزكوا أرواحهم بعيدا عن الدنس فمن يبقى فى المجتمع؟ ومن يدير شئونه؟ ومن يتحرك فيه؟
أليست هذه العزلة مشجعا للفاسدين أن ينفردوا بالعمل دون تدخل ولا اعتراض؟ بينما كان الواجب الأول لأولئك المتطهرين أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويأطروا الحاكم على الحاكم على الحق أطرا ويأصروه عليه أصراكما أمرهم الله ورسوله ؟
فإذا أضيف إلى هذه الأمور كلها تضخم الشيخ فى حس المريد إلى حد أن يصبح فى حقيقة الأمر واسطة بينه وبين الله، فى الوقت الذى جاء فيه الإسلام ليلغى كل واسطة بين العبد والرب، ويحرر القلب البشرى من كل قيد يعوقه عن الاتصال المباشر بالله، وعبادة الله وحده بلا شريك، ويكون من تعليمه للناس : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [سورة البقرة 2/186]
إذا اضيف هذا إلى كل ما سبق فقد بدا لنا كم تنحرف الصوفية عن أصل الإسلام، وكم تضيف إليه ما لبس منه، فى سبيل تحقيق غاية فى ذاتها من الإسلام، ولكن طريقها الربانى غير هذا الطريق..
وهذا كله مع الصوفية " النظيفة " الصادقة المخلصة، فكيف إذا صارت دجلا وتهريجا وخرافات؟
ولا شك أن هناك فى تاريخ الصوفية سواء تاريخ الشيوخ أو المريدين . من كان عاملا بتعاليم الإسلام، مجاهدا فى سبيل الله بماله ودمه، آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، ناشرا لدين الله فى الأرض. فهؤلاء كما أشرنا من قبل لا ينطبق عليهم حكم الصوفية المنحرفة، وإنما هم فى الحقيقة زهاد وأن الحقوا بالصوفية.
ولكن الذى لا شك فيه كذلك أن هؤلاء قلة فى تاريخ التصوف، وأن الأغلبية كانت من أولئك السلبيين المنعزلين، الذين يسعون إلى تزكية أنفسهم فى عزلة عن ركب الحياة.
وأما " العمل " بمقتضى " الإيمان فى الدائرة الفردية والاجتماعية أى فيما لا يتعلق بالسياسة فقد كان الحال خيرا بكثير ولا شك منه فى أواخر الدولة العباسية حيث كان التحلل قد ساد المجتمع وفسدت أخلاقه. فإن المولد الجديد على يد الدولة الفتية، والعزمة القوية التى يحتاج إليها بناء دولة جديدة تقاتل أعداء أشداء، وتريد أن تمكن لنفسها فى الأرض، فضلا عن الجد الصارم الذى تتصف به الدولة العسكرية، كل ذلك قد أحدث تماسكا خلقيا واجتماعيا قرب الناس من روح الإسلام بقدر ما كان الترف العباسى والهو والمجون قد أبعدهم عنه.
وانتشرت فى القرنين الأخيرين بصفة خاصة تلك القولة العجيبة : من لا شيخ له فشيخه الشيطان.
وأصبحت الصوفية بالنسبة للعامة بصورة خاصة هى مدخلهم إلى الدين، وهى مجال ممارستهم للدين.
وحين أصبحت هكذا فقد أصبحت مجموعة من الخرافات والأوهام تتعلق " بالمشايخ " الأحياء منهم والأموات، وصار " التدين " هو الإيمان بالشيخ، وبكراماته، وبأحواله، وقدرته على استشفاف الغيب، وقدرته على شفاء المرضى بغير دواء وقدرته على فك السحر واستخراج الشياطين من أرواح من تسلطت عليهم.. كما أصبح هو التعلق بالأضرحة والأولياء، ونذر النذور لهم والتقرب بالقرابين، دون عمل حقيقى بمقتضى الدين.. فقد أصبح هذا فى حس العامة هو الدين، وليس الدين هو ما أنزله الله فى كتابه المنزل وسنة رسوله .وأما الفراغ الهائل الذى خلفته الصوفية فى مجال العمل، فقد " ستره " الفكر الإرجائى.. المهم هو الإيمان. والإيمان هو التصديق. وهذا متوفر داخل القلب، فلا على الإنسان إذن أن تكون حياته خلوا من العمل بمقتضى الإيمان، فإنه لا يضر مع الإيمان شئ. وتدريجيا فرغت الحياة من المحتوى الحقيقى للدين، ولم يبقى منه سوى وجدانات مهومة.. مختلطة بالأضاليل وتقاليد.
المفضلات