في ساحة الإنشاد
قصة قصيرة، بقلم: محمد جبريل
.....................................
لم يصدق الشيخ جابر أبو عبية أن سيد العقبي يرفض أداء كل ما تعلمه منه, يصر أن يقرأ مدائح لايدري من وضعها له, ولا إلي من يتجه بها, هي الكلمات نفسها عن الله والمصير والرغبة في الفرار من العقاب ودخول الجنة. يرددها المنشدون والمداحون والمولوية والصييتة في الموالد والليالي وساحات الحضرة, لكنها تختلف في أداء العقبي بنقل المعني, يتأمل الناس تعبيراته, يجتذبهم صوت العقبي المحمل بالعذوبة, ينفذ إلي الأعماق, يصعد بالنفوس إلي آفاق علوية.
أول رؤيتنا لسيد العقبي حين ردد وراء الشيخ جابر أبو عبية منشد الطريقة الشاذلية, علا صوته بين الذاكرين, يردد ما يقولون من المدائح والأشعار وبردة البوصيري, لم يلفت اهتمامنا, وإن اجتذبنا في صوته بحة, لا تخلو من أنوثة.
تعرفنا إلي ملامحه الظاهرة, عند ظهوره في الموالد والليالي وساحات الحضرة, يردد ما حفظه عن الشيخ أبو عبية من المدائح في النبي وآل بيته, وفي التنبيه إلي أحوال الدنيا وأحداث الأيام.
تكررت مشاركاته في الحضرات المرتبة للطريقة الشاذلية, موضعها السرادق الملاصق لجامع المرسي من ناحية السيالة.
قيل إنه عمل صبيا للأسطي سعيد قطا نجار السواقي بعزبة خورشيد, وتحدثت روايات عن إفادته من فترة عمله في قهوة المعلم البابلي المطلة علي الأنفوشي, وأكدت روايات أنه مجهول النسب, ما كتبه في شهادة ميلاده يختلف عن اسمي الوالد والجد مما سربه إلي السفلية في الرواية والحكي, وقيل إنه طال اشتغاله ببيع البضائع الصغيرة: ساعات يد, وميداليات ونظارات شمسية, وسبح, وأمشاط, ومقصات, وسكاكين, وأقلام رصاص, وأقلام حبر, وكوتشينة, وميداليات, وألعاب للأطفال, وعطور, وأدوات تجميل, يحملها في حقيبة مفتوحة, علي صدره وساعده, يتنقل بين المقاهي والدكاكين والميادين والشوارع المزدحمة, وقال الشيخ حجازي رضوان قارئ التلاوة في جامعة البوصيري إنه التقي بالعقبي ـ للمرة الأولي ـ في مقابل العامود, تسابقا للحصول علي الأقراص والكعك والفطائر والمنين, رحمة ونورا علي الموتي. تكررت لقاءاتهما في المقابر, قبل أن يطالعه العقبي مساعدا للشيخ أبو عبية في إنشاده.
روي أنه سمع إنشادا لم يسبق له التعرف إلي صاحبه ـ في سرادق بمولد سيدي نصر الدين, اجتذبه الصوت, والكلمات, وطريقة الأداء, لا إيقاعات إلا صوت الشيخ والمستفتح, وتصفيق الأيدي. يبدأ الشيخ إنشاده خفيضا, هامسا, يعلو ويعلو حتي يبلغ الذروة.
أزمع أن يعد نفسه لهذا العمل. أخذ العهد في الطريقة الشاذلية علي يد الشيخ مكرم رسلان إمام الطريقة, تبعه بقراءة دلائل الخيرات, وكتب التوسل للذات العلية, وقصائد المديح, والتغزل بالنبي, والتوسل بخير البرية, وطلب شفاعته, وشفاعة آل البيت, والصحابة, والأولياء, حفظ قصائد للمسلوب والمنيلاوي وأبو العلا محمد والبنا وسلامة حجازي وصبح وعلي محمود.
أخذ عن الشيخ جابر أبو عبية, تصرفاته, حركاته وسكناته. تدريب علي طريقة الإلقاء, متي يضع يديه تحت ذقنه, متي يلصقهما بالأذنين, متي يعلو صوته ويهبط, كيف يفيد من آخر قراراته, يلجأ إلي التعبير بالإيماءات والإشارات وحركات اليدين وتعبيرات الوجه المصاحبة للأداء, يتغني بالصبابة والوجد والشوق إلي الوصال, وإن أخذ العقبي علي الشيخ ـ بينه وبين نفسه ـ أنه ينشد ما يوضع في فمه, لا يتأمل الكلمات, ولا يتدبر معانيها, لا يشغله حتي نوعيات المستمعين, وتأثيرها, وهل يحسنون الفهم, أو أنهم يكتفون بسماع ألحان تمتدح الرسول.
عهد إليه الشيخ ـ في البداية ـ بدور المجاوبة الغنائية, أقرب إلي المبلغ في صلاة الجماعة.
طالت رفقته للشيخ حتي شال عنه كل ما يرويه, يعيد ما يستمع إليه, يلجأ إلي الارتجال والتأليف والتوليف والصنعة, ينظم الأبيات لحظة نطقها, يستغني عن الحفظ إلا في المعاني, يضيف ما يمليه خياله وموهبته. ربما علا صوته بما لم يكن له أصل, ولا استند إلي وقائع حقيقية.
حين طلب منه الشيخ أن ينشد معه جزءا من الأداء, حاول أن يبدع بما يقارب أداء الشيخ, أو يفوقه, يتأمل انعكاس أدائه في أعين الناس, يفرق بين مريدي الشيخ وبين من قدموا للاستماع.
هؤلاء هم الجمهور الذي يبحث عنه, وعليه إعداده حين ينشد ـ منفردا ـ في الموالد والليالي وساحات الحضرة.
يستجيب للأصوات الرافضة, والمعترضة, والتي تعلو بالملاحظات. يوقف النغمة, يستبدل بها نغمة, ونغمات, أخري, يتأمل صداها في أعين الناس, وإيقاع تصفيقهم, يتبين ـ بنظرة متفحصة ـ استجابات الناس, ما بين طالب للإعادة أو الاستزادة, ورافض, يظل علي النغمة التي اختارها لإنشاده, أو يبدلها, يسند خده الي يده, يغمض عينيه, يعلو صوته بآخر طبقاته.
قبل ان يقتصر علي نفسه, كان قد أنشد في كل الموالد, ليس في بحري وحده, وإنما في الاسكندرية والمدن الأخري, موالد الشاذلي والدسوقي وأبو حجاج الاقصري, والمولد الأحمدي, وموالد الطاهرين من آل البيت: السيدة زينب والحسين والسيدة نفيسة وزين العابدين وفاطمة النبوية والسيدة عائشة.
ردد قصائد أبو عبية في البداية, ثم تحول الي قصائد, ضفر أبياتها من قصائد مختلفة, مزج بين اسلوب الشيخ في الآداء, وبين أساليب تعرف إليها في إنصاته لشيوخ آخرين. لم يتردد في الحذف والإضافة والتوشية, وإن لم ينسب النبع الي نفسه, ما فعله انه استوحي, وألف, ولحن, اداؤه يكفل له توالي الموجات في بحر الإنشاد.
لم يقصر ما يقول علي ما أخذه من الشيخ, ومن المشايخ الآخرين, عني بزيادة حصيلته من النصوص, بما يشمل كل الأغراض, وما يتفق مع أذواق الناس, وما يريدون سماعه.
اختار ما لم يسبق إنشاده في الموالد والليالي وحضرات الساحة, تنقل بين المقامات, زاوج بينها وزاوج بين إيقاعات النغم الشرقي والنغم الشعبي, أدخل الالات الموسيقية حتي ما لم يستخدمه الشيخ أبو عبية, الكمان والناس والقانون والاكورديون, قدم من التوحيد, والمديح, والتوسل, والأوراد, والأحزاب, ما لم نكن قرأناه ولا استمعنا اليه من قبل, وأنشد قصص الكرامات, وقصائد ابن الفارض وابن عربي, ترافقه آلات الطرب من الناي والربابة والعيدان والدف والطنابير.
امتد إنشاده إلي المدائح النبوية والابتهالات والتسابيح والتواشيح والأذكار والتخمير والقصائد والأدوار, ورواية معجزات النبي والرسل ومناقب الأولياء, أنشد للجيلي والجيلاني وابن عربي والحلاج والغوث وابن الفارض وعلي محمود.
فن الإنشاد له أصوله, وقواعده, وقوالبه, وإيقاعاته, حفظ ما لم يكن يعرفه بقية المنشدين: المدد, التوسلات, الأغنيات الشعبية.
حتي ما لم يعبر عن العقيدة الدينية, حتي الأدوار المحملة بالايحاءات والإرشادات الجنسية. يحرض من في ساحة الحضرة أن يرددوا الإنشاد وراءه, يتحولوا إلي سنيدة ومذهبجية.
ربما التقط الناي أو المزمار من الطاولة الصغيرة أمامه, يصل الأداء الصوتي بفقرات موسيقية, فرشة تسبق الإنشاد. ادخل علي الألحان ايقاعات غائبة المصدر, ليست الايقاعات التي اعتدنا سماعها. غير في النصوص كلمة, وكلمات, ثم حذف, وأضاف, وبدل. يعتمد علي البديهة, والقدرة علي الارتجال, يضمن إنشاده أسماء رءوس العائلات في القري والأحياء التي تستقبله, ينوع في الألحان والإيقاعات والأداء الصوتي, يخضع ما ينشده للمعاني التي يريد توصيلها. يمد الحروف, يطيلها, يقصرها, ينغم الأبيات, يحسن الوقفات, والسكنات, والترقيق والتفخيم. قد يهمل العديد من الأبيات لنبوها عن سياق المعني, ربما نوع بين نص وغيره من النصوص, ليبلغ هدفه.
حرص أن يوضح في النصوص ما يبدو غامضا, أو يقدم المعاني التي يشغله توصيلها, هي غير موجودة في النصوص, أو متوارية. يوائم بين أذواق الناس, يختار لكل جماعة ما يروقها: الحب الإلهي والنبوة ومديح الرسول وآل البيت, التغني بمناقب أولياء الله, ومكاشفاتهم, وحوادثهم, وخوارق أفعالهم, التوسلات ونداءات النصفة والمدد, فراق الأحباب والحنين إلي موطن الميلاد والطفولة والنشأة.
لم يعد يجد حرجا في الإنشاد, في حضور الشيخ أبو عبية.
طريقة الرجل مذهبه, ولم يشر العقبي إلي طريقته, فغاب المذهب الذي كان يؤمن بتعاليمه, وما يدعو إليه.
جعل لنفسه مجموعة, يحيطون به, يرافقونه إلي الأماكن التي ينشد فيها, الساحات والقاعات الواسعة والسرادقات, يرددون ما ينشده, تعلو أصواتهم بعبارات الاستحسان والثناء, تصفق أيديهم بالإيقاع المصاحب للكلمات, الدور نفسه الذي طال قيامه به في صحبة الشيخ جابر أبو عبية, حتي اذن الله فاستقل بنفسه.
حاول أن يضمن إنشاده آراء وانتقادات وما ينفع الناس, يستشهد بسيرة الرسول, وسير الأنبياء, وقصص آل البيت والصحابة والأولياء والتابعين, تمازجها الكناية والتورية والإضمار.
لم يتحدث عن تأليف طريقة صوفية, وإن زاد عدد المعجبين بصوته, فصاروا كالمريدين في حضرات شيوخ الطرق, حفلت الساحات بمواكبهم, انتشروا في الشوارع الرئيسية والجانبية. حتي الساحة الحجرية أمام قلعة قايتباي, صنعوا فيها حلقة, نشروا الزينات والبيارق والرايات الملونة, وتعالت أصواتهم بما حفظوه من الكلمات التي نحسن فهم معانيها.
جاوز بقصائده جلسات الخواص وحلقات الذكر ومجالس شيوخ الطرق, إلي الموالد والسرادقات التي يفد إليها آلاف العوام واللقاءات المفتوحة.
أرخي العذبة من العمامة الهائلة المستقرة فوق رأسه, أهمل شعره, فلم يقصه حتي انسدل علي كتفيه, يضفي علي هيئته مهابة بالنظرات النافذة, واللحية التي أحسن تهذيبها, والجلبات الصوف, والشال الملتمع حول عنقه.
جعل العقبي من بيت ذي طابقين, يطل علي ناحية خليج الأنفوشي, سكنا له, يعكف فيه علي العبادة والمراجعة وحفظ الجديد من الإنشاد, فلا يداخل نفوس الناس بالمتكرر, وما يبعث الأمل, يستقبل محبي صوته, لا شأن له بوعظ ولا إرشاد. ظل علي حاله منشدا, يؤدي المدائح والأدوار والأغنيات.
لجأ إلي الوسائط التي لم يستخدمها جابر أبوعبية, ولا أي من المنشدين الآخرين كشريط الكاسيت والأسطوانة الرقمية, أضاف إلي إنشاده ما حفظه من الشيخ أبو عبية, وإن لم ينسبه إلي نفسه, لم ينزع نفسه عن الطريقة الشاذلية التي مثل أبو عبية حلقة في سلسلة منشديها, كل الإنشاد يصدر عن العقبي, وله حسن الجزاء والمثوبة.
طال صمت الشيخ دون أن تبدو في تصرفاته نية الرفض.
روي أنه دعا أفراد فرقته لتدبر ما جري:
ــ إذا ظل الناس علي سماعهم للعقبي, فستكون النتيجة خراب بيوتنا!
توزع أفراد الفرقة, ومن يتبعونهم, في القري والأحياء والأسواق والخلاء وداخل الميناء وعلي الشاطئ, حتي ورش القزق دخلوها, ودخلوا البيوت والسرادقات والموالد, زاروا الجوامع والزوايا والمقامات والأضرحة, ترددوا علي الساحات والمقاهي وحلقة السمك, همسوا بالملاحظات والتحذيرات والتوقعات والخوف من ضياع البركة.
عرف الناس أن رفض أبوعبية زيارة العقبي في بيته لأنه أساء إلي الإنشاد, وشوش أفكار الجماعة, أضاف, وحذف, وبدل, بما خرج بالكلمات عن الطريقة الشاذلية, وعن أصول المهنة, واجتث جذورها.
شاغل أفراد الفرق ومن يقودونهم, أن يقبل الناس علي الصلاة في مواعيدها, يسبقونها ويلحقونها بركعات السنة, وبالنوافل, يجلسون في حلقات الوعظ والإرشاد الديني, وقعدات الصوفية, وقراءة القرآن وتجويده, ينتظمون في حلقات الذكر. ثم يمضون إلي سرادقات منشدي الشاذلية, وقصائدهم, وحكاياتهم.
ترك جماعة أبو عبية للناس أمر الخلاص من المعاناة, أن يتخلصوا من العقبي بطريقتهم, اعتبار ما كان كأنه لم يكن, وإعادة الأمر إلي صورته الأولي.
ينشد الشيخ جابر أبوعبية مدائحه المتفردة في سرادقات بحري, ظله مساجد الحي وشفاعات أولياء الحي ومددهم, تطلعه إلي الذات الإلهية بالتوسل والرجاء, صورة الانشاد الديني كما اعتادها الناس.
.................................................. ..
*الأهرام ـ في 18/9/2009م
المفضلات