كتبت هذه التي في الأسفل .. ولم استطع تصنيفها .. وقد قال لي بعضهم أنها لاتنتمي إلى الجنس الآري .. ولكنها قريبة الشبه بالقصة القصيرة .. وقال البعض الآخر بل هي مقالة سياسية .. وقال أحدهم لا هي هذا ولاذاك بل هي منشور سياسي متخفي عن أعين الأمن ...
إليكم هذا النص
مصر التى فى جيبه
كنا نطلق على أحد أصدقائنا أسم "عبد المتجلي سليط" نظراً لتشابه صفاته مع صفات الشخصية المسرحية التي أداها المرحوم أمين الهنيدي في مسرحية "لوكاندة الفردوس" ، وقد تميزت شخصية "عبد المتجلي سليط" في المسرحية الشهيرة بالطيبة المفرطة والسذاجة المبالغة التي كانت تغرقنا في الضحك خاصة عندما كان يرغب في الظهور بمظهر الأب الحاسم الحازم فيقول لبناته الصغيرات – وقد اصطففن صفاً واحداً – بنااااات ... فتقول البنات في صوت واحد ... باااااابا ... فيرد عليهم بحسم: معتداااااال ... مارش ... وكأنه بهذا الحسم يربى بناته تربية عسكرية صارمة!!!
أما صديقنا الذى أطلقنا عليه "عبد المتجلي سليط" فكان قروياً ساذجاً جاء من عمق الريف ليلتحق بإحدى الكليات عله يحمل في يوم ما الشهادة العليا ويذهب بها لأهله مفتخراً بما حصّله متفاخراً بما وصل إليه ، ولم يكن صديقنا ساذجاً فقط ولكنه كان شديد الطيبة تلمح في ملامحه الوداعة والهدوء ... وكانت أقصى أمانيه أن يصبح في قابل الأيام موظفاً في إحدى الوزارات وكان يحدوه الأمل أن ينهى حياته الوظيفية بدرجة مدير إدارة "قد الدنيا" وقتئذ كنا نقول له : مدير إدارة مرة واحدة يا عبد المتجلي حنانيك يا رجل ... وأذكر كم كنا نتضاحك عليه فيشاركنا في ضحكاتنا بسماحة محببة وبضحكة مميزة اشتهر بها بيننا حيث كانت تملأ أشداقه ، ولم نعهد فيه فى تلك الأيام التي خلت حقداً أو غلاً بل إنه عندما كان يخشوشن علينا بعض الشيء فإنه كان يرفع عقيرته بالصياح قائلاً بحسم وحزم ... ولاااد ... فنقول له مقلدين بنات مسرحية "عبد المتجلي سليط" ... باابا فيعود مرة أخرى لضحكته المميزة ، تلك الضحكة التي لم تتلون على الإطلاق بمكر أو بكبر.
ومرت السنوات وتخرجنا من كليتنا وانخرطنا في الحياة بحلوها ومرها ، عاش منا من عاش ومات منا من مات ، هاجر بعضنا يبحث عن رزقه في بلاد الغربة ، وأنكفئ البعض الآخر على حياته حرصاً على بعض لقيمات يقمن أوده وأود أسرته ... وتشعبت بنا سبل الحياة وغاب معظمنا عن بعض إلى أن مرت عشرون سنة كاملة على تخرجنا من كليتنا.
وذات يوم عندما كنت أقرأ الصحيفة على الإفطار استرعى انتباهي خبر عن تعيين بعض المسئولين الكبار لبعض المؤسسات والهيئات فإذا بإسم صاحبي "عبد المتجلي سليط" يقفز من بين السطور ليطالع نظري ... إذ أصبح رئيساً لإحدى الهيئات شديدة الأهمية في الدولة ... حينئذ داعبت ذكريات السنين التي مضت خيالي فافتر ثغري عن ابتسامة متعجبة ... وكأن لسان حالي يقول : ها هو من كنتم تسخرون منه ... انظروا قد بزكم ونال قصب السبق عليكم ... وكأن الدنيا لا تبتسم إلا لمن هو خالي البال عديم التأثير!!!
وبعد أيام التقيت بصديق من أصدقائي القدامى إسمه أبو طلبه فوجدت عنده خبر تعيين صديقنا في هذا الموقع البارز فكان أن اتفقنا على أن نذهب إليه سوياً نبارك له ونبثه أشواقنا ونذكره بأيام مضت ولكن ذكراها مازالت مشحونة في قلوبنا.
وفى اليوم الموعود إتجهنا لزيارة الصديق – بعد أن هاتفه صديقي أبو طلبه واتفق معه على الموعد – ونظراً لإنشغال صديقنا المهم - "عبد المتجلي سليط سابقاً" – فقد انتظرنا قرابة الساعة ثم أذن لنا بالدخول ولا أخفيكم سراً أنه أحسن استقبالنا وأجلسنا في الصالون المواجه لمكتبه ، وكم كان هذا الصالون عظيم الأناقة فهو من طراز فيليب الفرنسي يكسوه أوبيسون مشغول وقد كسيت الأرض بسجاد شيرازي فاخر ، أما مكتب صديقنا فكان من نوع نادر مصنوع من خشب الورد ، ناهيك عن التحف التي ملأت المكان والتابلوهات الأصلية التي ازدانت بها الحوائط ... ونظرت إلى صديقي أبو طلبه الذي اصطحبني في هذه الزيارة فوجدته قد فغر فاه من شدة دهشته وقد انتهز لحظة إنشغل فيها صديقنا بمكالمة تليفونية فقال لي هامساً ما هذا الوهم؟ فأومأت إليه مبتسماً إلا أنني لم أحرك شفتي.
وعبر ساعة أخرى رأيت فيها أمراً عجباً ... ذلك أن جحافل من كبار القوم كانت تتوافد على المكان وكلهم يتحدثون مع صاحبنا وكأنه عبقرية نادرة وفلتة من فلتات الزمان لا يجود الله بمثلها إلا كل مائة عام ، حينئذ كان يهمس أبو طلبه في أذني : أنظر كيف يصنعون الفراعنة.
وازداد عجبي وامتعاضي عندما رأيت بعضاً ممن يصدّعون رؤسنا ليل نهار بكلمات محفوظة عن الشرف والأمانة وهم يتوسلون للرجل في استعطاف زائد ونفاق مهين أن يسمح لهم بما لا يجوز ... أما صاحبي فكان يسمح لمن يريد ويمنع من يريد وكأن هذه البلد أصبحت ضيعة من ضياعه وعزبة من أملاكه!!!
وعندما دخلت جمهرة من كبار السياسيين على الرجل أخذ يحدثهم عن طموحاته وهم يهللّون له ويصفقون عقب كل كلمة وهم في حقيقة الأمر لا يكادون يفقهون حديثاً ، حينئذ أعاد صاحبي أبو طلبه في أذني كلماته الأولى : أنظر كيف يصنعون الفراعنة.
ولا حظت أن صديقنا "عبد المتجلي سليط" تملكته أثناء مجالستنا نشوة غريبة وكان يتعمد أن يتحدث بالتليفون وهو ينظر إلينا ـ وقد اعتراه شعوراً بالقوة ممتزجا مع الخيلاء ـ كى يأمر بفصل أحدهم من عمله أو تقديم آخر للنائب العام أو نزع ملكية ثالث بلا سبب لأراضى يمتلكها!! أما عين عبد المتجلي سليط فقد اعترتها لمعة غريبة تدل على الجشع والنهم وشهوة الإيذاء ، ونظرت إليه وكأنني لم أعرفه من قبل وكأن أروقة العلم لم تجمعنا في مدرج أو فصل وكأنه لم يكن هذا الشاب السطحي الوديع ، أصدقكم القول أن لسانى إنعقد ولم أستطع طوال الجلسة الحديث إلا بهمهمات غير مفهومة حتى ظن صاحبي أن بى صمم أو أن عارضاً أصاب عقلى.
وبعد أن انتهت جلستنا وهممنا بالانصراف حينئذ اغتصب صديقنا عبد المتجلي سليط ابتسامة باهتة إلا أنها كانت مفعمة بكبر وعنجهية لم أدر سببهما ، ثم قال لنا: إبقوا تعالوا زورونى وأى خدمة أنا تحت أمركم إعتبروا مصر كلها فى جيوبكم ، ثم ضحك بصوت متحشرج ضحكة غريبة واستدار بوجهه إلى الناحية الأخرى
ثروت الخرباوى
المفضلات