اندهاش
فوجئنا بحركة سريعة ، لم نكن نتوقع انه سيقوم بها ، كنا نمزح ، نجلس مع بعضنا البعض ، نذكر آخر النكات التي سمعناها ، وننطلق في ضحك طويل ، ماذا يمكننا ان نفعل ، لنرفه عن أنفسنا المكدودة ، وأرواحنا المتعبة ، كنا خمسة أشخاص ، حسام رسام ، يمسك الريشة ليرسم صورا لمناظر طبيعية ،او ينظر إلى احد وجوهنا ، ليأخذ في رسمه ، بشكل ساخر ، او كاريكاتوري مبهج ، عادل كان قارئا نهما ، يكثر من القراءة ، دون ان يتكلم ، ان طالبته برأي عما يجري من احداث ، حرك يديه دلالة على الحيرة ، وعدم الاستعداد للأخذ برأي محدد ، عدنان رجل عامل ، نجار ، صلب القوام ، قوي ، يقضي نهاره في صنع الأبواب والكراسي والطاولات ، أنا ، لا اعرف كيف اصف لكم نفسي ، انا إنسان بسيط وان كان بعض الناس ، يطلقون علي صفة الغامض ،، الذي لا يعرف ماذا يريد ؟؟ ، الشخص الخامس في مجموعتنا كان الغريب فيما بيننا ، ولست ادري كيف انضم الى جماعتنا ، وهو يختلف عنا بشكل يدعو الى الاستغراب ، كان أكبرنا سنا ، ويتصف بالحنان والعطف ، انا شخصيا كنت أحبه ، عاملني برقة وكأنه أب لي ، وأنا محروم من عطف الأب ، لهذا تعلقت به ، وعطفت عليه ، وكنت أجد نفسي ميالا الى الدفاع عنه ، ان تكلم احدهم منتقدا في غيابه ، ولكنه كان مقدرا حائزا على احترامنا ، نحن الأربعة الذين نكون معه ،، مجموعة من الناس المتعاونين المتفقين ، وان كان اتفاقهم عشوائيا
كان هذا الرجل الكبير في السن يختلف عنا كثيرا ، حين كنا نضع شرابنا على الطاولة ، يجلس هو في ركن قصي من الغرفة ، واضعا كتابا سميكا في يده ، والكتاب نفسه لم يتغير أبدا ، طيلة الفترة التي تعرفنا بها عليه ، سألته مرة
- ماذا تقرا ؟
- كتاب الله
لم اعرف ما معنى كتاب الله هذا ، رغم إني في بلد يقولون انها إسلامية ، ورغم أنهم يزعمون ان دينهم يحث ،، على الأخلاق الحميدة ومساعدة الفقراء ، وإغاثة الملهوف ، واحترام الآخر ، وتقدير النساء ، الا إنني أجدهم صفرا من هذه الصفات ، جارتي تقول ان رجلها لم يرها منذ فترة وانه يعاشر واحدة أخرى ، نبيل زوجها الغني ، لا يساعد الفقراء ولا يرحم المساكين ، وأنا حقيقة لا افهم شيئا عن هذا الدين ، الذي يتناقض مع أهله تمام التناقض ، حدثت رفيقنا الشيخ الجليل عن أمري ، فانطلقت أساريره فرحا واستبشارا
- أنا أخبرك بما أنت راغب في معرفته
لهذا أصبح ذلك الرجل الكبير عزيزا علي ، أثيرا على نفسي ، وكنت ألاحظ ان جميع أفراد مجموعتنا الظريفة اللطيفة يحبونه ، ويقدرونه ، وان كنت لا افهم طريقته في الحياة وهو كما يبدو ،، لا بعرف لماذا نتصرف نحن هكذا بتلك العفوية المرهقة ، التي لم يسألنا يوما تفسيرا لها
كان يستمع الى مناقشاتنا بهدوء دون ان يتدخل ، وكنا أحيانا نجتمع في بيته ،، الذي كان واسعا يضمنا كلنا على تلك المائدة ، ويستطيع الرجل الكبير الا يشاركنا إياها ، بل يجلس في ابعد مكان من الغرفة ، ماسكا بيده ذلك الكتاب الغريب المثير للاستغراب
كان عدنان رجلا كثير الشراب ، حين يسرف ، يصبح هازلا ضاحكا يبالغ في مزاحه ، كنا نفهمه ، ونستجيب لضحكاته الكثيرة المنبعثة من القلب ، ولكن الذي أثار استغرابنا تلك الليلة ،، ان الرجل الكبير الهاديء لم يتقبل المزاح ، واستشاط غضبا حين تقدم عدنان وفي يده الكأس منه قائلا
- في صحتك
استولت علي الحيرة ، واستبد بي الاستغراب وأنا أجد الرجل الكبير الهاديء وقد تملكه الغضب واستبدت به العصبية
قلت لكم انا لا افهم الإسلام ، هذا الدين الغريب ،، الذي يجعل الأشخاص الهادئين المسالمين يستشيطون غضبا ، حين يقدم لهم احد ذلك المشروب الحبيب
عاد عدنان الى الطاولة وانضم إلينا ، وأخذنا نضحك كعادتنا كل ليلة ،، ولقد نسيت انا ذلك الانفعال ،، الذي ابداه الرجل الكبير ، وان كنت قد تعاطفت معه ، فانا أحبه وكان يعاملني وكأنه أب عطوف لي
فجأة اخذ الرجل سجادة صغيرة ،، وفرشها على الأرض ، وقف عليها ، قرا بعض الكلمات لا ادري ما هي ثم انحنى ، لست ادرك لم استبد الضحك بعدنان ، وكأنه مثلي لم ير هذه الحركة من قبل ، تعاطفت مع الرجل الكبير
- صه
ولكن عدنان حين سمع ذلك التحذير انطلق نحو الرجل وقد رآه ينحني على الأرض ويضع جبهته عليها ،، جرى نحو الرجل الكبير ،، ووضع قدمه على ظهره المنحنية ، كنت أظن ان الرجل ،، سيهب واقفا ليحرر نفسه ، لكنه بقي منحنيا ورأسه وجبينه على الأرض ،، وهو ثابت وكأنه لا يشعر ماذا يحدث له
انظر الى عدنان واجده متوترا وقد اشتعلت فيه الأعصاب وتوقدت المشاعر ، وانظر الى الرجل الكبير ،، واجده هادئا وكان لاشيء قد حصل
لم يتحرك الحاضرون ، وكأنهم قد خافوا من قوة عدنان وكبر جسمه ذي العضلات المفتولة ، وان فكرت ان انجد الرجل الكبير ، لكني وجدته لم يتحرك لإنقاذ نفسه
يقوم الرجل هادئا بعد ان انتهى من جلوسه على الارض ،، وقد عرفت بعد ذلك ان تلك الحركة تسمى صلاة ، ولكن الذي أثار دهشتي واشعل نيران الاستغراب في قلبي ان الرجل الكبير ،، نهض هادئا خفيف الحركة ، وكانه التقى بحبيب له عزيز على فؤاده ،، ودفع عدنان بعيدا بذلك القيام الذي وجدته مفاجئا لي
نظرت الى الرجل الكبير ، وقد عاد الى مكانه المألوف والكتاب نفسه بيده ، نظرت الى عدنان ، وجدته جالسا لا يستطيع القيام ، نحاول ان ننهضه ، فلا يستجيب لنا ، وينطلق صراخه الأصم ، ويبدأ بالبكاء ،، ويستنجد
- سامحني
صبيحة شبر
12 كانون الثاني 2007
المفضلات