Life Magazine, August 25 , 1952
خـــلــع المـلـك
أحـــرج ســـت سـاعــات
زعيم مصر الجديد يكشف قصة الانقلاب الذي أطاح بفاروق
بقلم اللواء محمد نجيب
بناءً على حواره مع دافيد دوجلاس دنكان
ترجمة / أحمد الأقطش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
في يوم 26 يوليو فاجأ العالم اللواء محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة المصرية بإعلانه عزل الملك فاروق. وفي حواره مع مجلة لايف كشف اللواء نجيب النقاب عن قصة تلك المجموعة الصغيرة من ضباط الجيش وكيف تمكنت من الإطاحة بطاغية مستبد. ومجلة لايف إذ تعرض حديث نجيب باعتباره وثيقة تاريخية، فإنها تشير بالطبع إلى أن هذه هي رواية النخبة العسكرية للقصة، وهي تعكس في جوانبها الروح الوطنية لأصحابها، كالإشارة إلى إسرائيل مثلاً على أنها "عدو يهدد حدودنا الشرقية".
وفي خلال الفترة القصيرة منذ الانقلاب بدأت بالفعل حكومة نجيب الجديدة الوفاء ببعض وعودها. فقد تم العمل في برامج الإصلاح الزراعي وتخفيض الأعباء الضريبية على الفقراء وتطهير النظام البائد من الفساد، كما صدرت وعود بإجراء انتخابات عامة في فبراير المقبل. ولكن في الأسبوع الماضي ظهرت مؤشرات على ما يواجه القادة الجدد من مشاكل؛ فقد أدى أحد الإضرابات في بعض مطاحن القطن بالقرب من الإسكندرية إلى نشوب أعمال عنف وشغب، مما دفع اللواء نجيب إلى إعلان حالة الطوارئ جزئياً بعد أن كان أنهاها عقب الانقلاب.
ـــــــــــــــــــــــــ
لدينا في القرآن قوله تعالى: "وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي .. وقيل بعداً للقوم الظالمين". إن بذور كفاحنا من أجل الحرية قد ألقيت منذ سنوات بعيدة، وها هي الآن بعد كل هذا الانتظار تؤتي ثمارها.
لقد كنا مجموعة من الرجال الذين امتلأت قلوبهم إيماناً، لكننا أيضاً كنا رجالاً يملؤهم الخزي والهوان من جراء حرب فلسطين. فقد لبينا نداء الواجب كجنود لأمتنا ووطنا عبر صحراء سيناء. وانطلقنا كمصريين وطنيين لمقاتلة عدو يهدد حدودنا الشرقية فيما وراء السويس. ثم علمنا، أثناء قتالنا على رمال الصحراء الحارقة، أن العدو الذي كان يكمن لنا ليلاً ليس موجوداً فقط أمامنا، ولكنه أيضاً كان متغلغلاً في عقر دارنا من خلفنا ـ وهم الخونة من بني جلدتنا . فقد تم تسليم الأسلحة لقواتنا، ولكن الأجزاء الحيوية كانت منزوعة منها. ولما وصلت إلينا إمدادات الذخيرة أخيراً، فوجئنا بأنها لم تكن تطلق النار! والإمدادات الطبية لجرحانا، والذين كانت أعدادهم كثيرة، لم تأتِ إلينا إلا بكميات هزيلة. أما عناصر المعدات الميدانية التي كان المقاتلون بحاجة ماسة إليها فإنها لم تصل أبداً! لقد حوصرنا بالفعل. إن المخاوف التي لم نكن نشعر بها في فترات السلم التي سبقت الحرب، ها هي تصبح واقعاً. لقد صرنا الآن متأكدين من أن الذين كانوا يديرون شئوننا في الحرب ليسوا سوى رجال باعوا للشيطان نفوسهم وأبناء وطنهم بل وحتى أبناءهم!
إن الخسة التي تربوا عليها هم وأرواحهم الشريرة كانت دافعاً لهم على خيانة وطنهم. إلا أنها كانت سبباً ولأول مرة في ظهور مجموعة صغيرة من الضباط الذين توحدوا في مواجهة الخونة. إنهم رجال مصر الذين أخذوا على عاتقهم الثأر لرفاقهم وتخليص وطنهم من قبضة فئة تخلت عن شرفها وعن أرواح بني وطنها.
لقد شعرنا بمرارة ونحن نرى بلادنا مطروحة في التراب. فقررنا أن نكرس أنفسنا لإحياء كرامتها وبعثها من جديد. لكن محاولاتنا في ذلك الوقت كانت منصبة على تغيير الأمور قبل أن نبدأ بالتحرك. فقمنا بتوزيع منشورات تظهر للشعب مدى القتامة التي وصل إليها تاريخنا. وحاولنا مراراً تحذير الملك من أن يستبد برأيه. ولكنه بكل نفوذه، وبكل الشر الذي كان يقف خلفه ـ الشر الذي دفع به إلى الهاوية ـ سعى الطاغية جاهداً إلى إخماد جذوة الوطنية، وواصل رجاله الغاشمون التمادي في غيهم. فقد كانوا يحاربون الفضيلة، ويدافعون عن الفجور، وأصبح النظام رمزاً للفساد والانحلال والفسق. فما كان منهم إلا أن لوثوا سمعة مصر فصارت معروفة لدى العالم بأنها منطقة غير صالحة للاستقلال أو الحياة الشريفة الطاهرة.
ومع ذلك استمر صوتنا الضعيف يعلو دفاعاً عن بلدنا، وكلنا تصميم وعزم على مواجهة قوى الشر والقضاء عليها. ولكن للأسف كانت أذن الطاغية صماء، حتى إنه سخر من هذه التحذيرات داعياً أصحابها "بالأطفال".
بعد ذلك وقع حدث ليس على قدر عال من الأهمية، فقد تم إجراء انتخابات اللجنة العامة لنادي الضباط. إلا أن الملك حاول أن يهيمن حتى على ذلك الجزء من حياتنا. وكان مرشحه، اللواء حسين سري عامر، يعتبره الجميع شخصاً غير كفء بالمرة لارتداء زيّنا العسكري. فقد تردد اسمه مراراً وتكراراً مقترناً بتهريب المخدرات والبيع المحظور لأراضي الدولة. وقد تساءل كثير من الضباط عن صلته بفضيحة الأسلحة الفاسدة في حرب فلسطين. لقد رفضناه .. هو والملك.
حينها غضب الملك وشعر بأن كرامته قد جرحت، إذ كيف يتسنى لمجموعة من الرجال في مصر أن تحد من نفوذه! فما كان منه إلا أن سعى في اصطياد هؤلاء الجنود للإيقاع بهم والتخلص منهم. فأصدر أوامره إلى الجمعية العمومية لأعضاء نادي الضباط بتعديل لائحة النادي بما يتناسب مع ما يريده ويرتئيه. وهنا تعرض للهزيمة الثانية، وعندها فقد إحساسه بالتوازن. فحاك المؤامرات ضد جميع الذين عارضوا أوامره. ومن منطلق السخط، قام بحل اللجنة العامة لنادي الضباط التي نجحت في الانتخابات بنزاهة. ومع أن هذه الواقعة لم تكن سوى أمر بسيط، إلا أنها كانت بمثابة بداية النهاية.
فتطلعنا إلى السماء نحن جنود مصر، ودعونا الله أن يفيض علينا من نوره ويهدينا إلى الطريق الصحيح. وعندها تجهزنا لما هو أكبر. ثم توجهنا إلى الله من جديد وسألناه قائلين: يا رب متى يكون يوم نضالنا وتحريرنا؟
في كل صباح كنا نقوم في الوحدات بتدريباتنا وأعمالنا الروتينية. أما في المساء فكان الأمر مختلفاً. كانت مجموعات صغيرة من الضباط تلتقي ليتباحثوا في الدور الذي يتوجب على كل واحد منهم القيام به عندما تحين اللحظة الحاسمة. كانت الخطة بسيطة وسهلة، ولكنها قوية وحاسمة. لقد أخذت كل الاستعدادات لإحباط أية خطوات يمكن للطاغية أن يأخذها. فقد حاول في المرة التالية أن يفرض إرادته الحمقاء الأنانية على مصالح البلد، لكننا كنا على أهبة الاستعداد. فعندها أخذنا على أنفسنا عهداً أن نحرر الأمة من الاستبداد والذل والمهانة ـ أو نموت!
وأطلقنا على أنفسنا اسم "الضباط الأحرار". وباستثنائي وحدي، لم يكن هناك أي واحد يحمل رتبة أعلى من رتبة بكباشي (مقدم)، فقد كانت الغالبية من صغار الضباط. كما لم يكن لأحد منهم أية علاقة بأي حزب سياسي أو جماعة دينية كالإخوان المسلمين. وتمت مناقشة خطط الانقلاب معي، وبعدها تمت إحالتها إلى تسعة ضباط يُسمّون "اللجنة التأسيسية". حتى إنني لم أكن أعرفهم جميعاً، على الرغم من أنني علمت لاحقاً ـ بعد أن دُعيت لتولي منصب القائد العام ـ أن رجل المعلومات الخاص بي كان واحداً من أعضاء اللجنة. وكانت الاحتياطات الأمنية لدينا على أعلى درجة مع علمنا بانتشار جواسيس الطاغية في مكان. لكننا هذه المرة لم نقسم على السرية لحماية أنفسنا وخطتنا، بل اعتمدنا على شرف وكرامة كل ضابط فينا.
ومع نمو الحركة كنا نتحقق جيداً من كل شخص قبل أن نمنحه ثقتنا الكاملة. وكما هي الحال في جميع الأمم والجيوش، كان هناك بعض لا يمكن الاعتماد عليهم إلا بعد أن يتأكدوا من إمكانية النصر. بل إنه حتى فيما يخص ثورتكم أيها الأمريكيون في عام 1776 مكتوب أنه لم يصمم على القيام بالتمرد المسلح إلا ثلث سكان المستعمرات فقط!
لم يكن الاتصال على المستويات الدنيا يتم إلا بشكل غير مباشر مع رجالنا. ولم يكن هناك أي ذكر لأية خطة فعلية أو لضباط اللجنة التأسيسية الذين كانوا في هذه اللحظة يخططون لكيفية تنفيذ كل التحركات عند سنوح الفرصة. بل كانت جهودنا متجهة إلى شحن الرجال وجدانياً، وإعدادهم أخلاقياً لليوم الذي يكون في وسعهم المساعدة في تحطيم قبضة الطاغية الذي كان يحارب مهنتنا وشعبنا.
تضمنت الخطة الفعلية للتحرير التي صاغتها اللجنة التأسيسية عدداً محدوداً من الرجال، لأنه لم يكن هناك عدو حقيقي كما في المعارك الحربية. فالأمر لم يكن سوى استيلاء على النقاط الهامة في الجيش وعزل الضباط ذوي الرتب العالية والمشكوك في ولائهم واستبدال آخرين بهم يتم اختيارهم بعناية. كما توجب عزل النقاط الأخرى داخل مدينة القاهرة في نفس اللحظة لحماية قواتنا. وفي هذا الوقت، كان لدينا أيضاً لجان محلية يعمل بها ضباط مخلصون، وكان عددهم محدوداً لمقتضيات الضرورة، موزعون على فروع القوات المسلحة. وتم تمثيل كل سلاح (المدفعية والفرسان والمشاة)، إضافة إلى سلاح الطيران والبحرية. وكان الجميع على أتم استعداد في انتظار اللحظة الحاسمة.
....... يتبع
المفضلات