والشعرُ الحديثُ ليس شعرا بمقاييس الشعر وإنما هو نسقٌ من التأليف يَقدر على الإتيان بمثله كل من أوتي قسطا من الثقافة الأدبية ، بينما الشعر بمعناه الحقيقي نمط من الفنون التي لا يَقدر على الإتيان بمثله إلا الشعراء المطبوعون المتميزون بموهبةٍ شعرية ٍ حقيقية ٍ، وما الشعر إلا طفح وجدانيّ مترجمٌ بلغة صاحبه فالمتقولون في الشعر كثيرون تغص بهم المجلات والصحف اليومية وكذلك المؤلفون الذين يتقنون رص الكلمات كثيرون أيضا ، بينما الشعراء المبدعون قليلون وهم موجودون في الساحة الأدبية كمناراتٍ بارزةٍ للعيان تلامس أشعارهم شغاف القلوب وتمخر عباب الوجدان وتمنح القارئ شعورا بالمتعة واللذة الأدبية وليس أدلُ على صحة ما نذهب إليه من جريان بعض الأشعار الممتعة الجميلة على ألسنة العامة والخاصة على حدِ سواء وما أظنني بسامع أحدا يترنم أو يردد في مناسبةٍ عامةٍ أو خاصةٍ بمقطع من شعر حديث .
والشعرُ كيانٌ جميل أبدعه الذوق العربي الأصيل والتقنين إطار طارئ عليه مستمد من جوهره وليس داخلا عليه من خارجه وتطبيق نظريات النقد الغربية على الشعر العربي كوزن الذهب في ميزان الفاكهة حيث يعد ذلك انتقاص من قدره ووضع للأمور في غير موضعها ، والشعر الحديث غربيّ في جوهره عربي ٌ في مظهره ولن تخرجه اللغة وإن كانت عربية عن حقيقته وجوهره ، والشعرُ ديوانُ العرب فكيف ينسلخ عن عروبته وكيف يدخلُ إلى ساحة الذوق الغربي
فمهما خلعنا على الذوق العربي من حلل الغرب حتى يتمكن من التجول هناك بحلته الجديدة فلا بد له من العودة إلى صفو ينابيعه رغم كل ما يجد من التشجيع إلا أنّ الردة عن صناعة الشعر على النمط الغربي هي ردة عن اللامعقول .
وأنا لا أنتمي شعريا لمدرسة من المدارس أو مذهب من المذاهب لأن الإنتماء تقوقعٌ والشاعر يتصف بالتحليق ، فكيف يحلق من حبس نفسه خلف قضبان الإنتماء . وما المذاهب المختلفة في الشعر إلا غرف لبيت واحد يستنشق عبيرها الشعراء فكيف يحرُم على شاعر كلاسيكي أن يستنشق من عبير الواقعية مثلا ..أو رومانسي يحلق في ربوع الكلاسيكية أيضا .
تلك تقسيمات تتنافى مع طبيعة الشعر الذي هو كالطير الذي حلق في الفضاء منذ فجر التاريخ ولم يزل محلقا حتى يومنا هذا وإن اختلفت طبيعة ما يراه أثناءالتحليق فهل الذي يحلق فوق صحراء جرداء كالذي يحلق فوق حديقة غناء ، وهل الذي يحلق فوق الآلة والسفينة كالذي يحلق فوق الحمار والبعير وإن كان لا يفترض انتفاء هذا بذاك لأن تلك الصور البعيدة لا تزال قابعة فوق أرضية مجتمعنا المعاصر ولو بصورة ضئيلة بينما تغص بها صفحات تاريخنا القديم فأي بأس على شاعرنا المعاصر إذا انفعل بالأطلال التي كانت تهيج كوامن الشعراء فتذكرهم بالحبيبة في لحظات الغربة .
ونحن ألسنا في أطلال غريبة تذكرنا بألف حبيبة وتحملنا على البحث عن الخيمة المستقرة الآمنة في زمن الإغتراب هذا .
صحيح أن لكل شاعر عالمه الخاص ولكنها خصوصية تستمد أطرها العامة من الواقع المعاش ، لقد كانت المساحة المكانية لديهم أكثر اتساعا لم يكن يفصلها عن بعضها فاصل ، بينما المساحة المكانية في زماننا الضيق مزقتها الجدر الإسمنتية إلى أشلاء يصعب اختراقها أو التجول فيها بسهولة .
فهل نحن بهذا التطور الماديّ أسعد حظا منهم .. ربما .. لكنهم بلا ريب أقل تعاسة منا .
إن التجديد في الأدب لا يكون تجديدا بتغيير مضمونه ولفظه وحسب . وإنما يكمن التجديد فيه من حيث قدرته على استيعاب قضايا عصره بأنْ يكون مرآة تتبلور فيها سمات هذا العصر أو ذاك ، لهذا تجد الأدب الجاهلي مثلا يمثل العصر الجاهلي خير تمثيل وكذلك الإسلامي والأموي والعباسي ، كما أن تعريب فن من الفنون الغربية التي لم تكن معروفة في أدبنا العربي تعتبر إضافة إلى أدبنا العربي وخطوة في الإتجاه الصحيح ، أما أن يكون أدبنا العربي مرآة للآداب
الغربية فهذا هو الخطأ الفادح . لذا فإنّ الحداثة وإن كان دعاتها عربا ولغتها لغة العرب إلا أنها لا تضيف جديدا إلى أدبنا العربي فهي صورة للآداب الغربية لحما ودما ومن الخطأ أن تكتب بلغتنا العربية لأنها ستكون كالآفة في الجسم السليم لا يلبث أن يطرحها الفم بمجرد أن تذوب عصارتها على اللسان .هذا ولم يكن أدبنا في يوم من الأيام بحاجة إلى وقفة مع النفس كحاجته إليها الآن فقد اختلف عليه الطقس واختلفت عليه الأجواء حيث صار يلبس تاجا غير تاجه ويتنفس هواء غير هوائه حتى صار في حالة إسهال دائم ، لقد اختفت معالمه وصار مشوها تشويها كليا وأحسبه في حاجة إلى عملية تجميلية لإزالة الشوائب التي علقت به .
وحيث أن الشعر لدى الحداثيين صار رصا لكلمات بلا التزام بالوزن ولا بالقافية وهما نبع الموسيقى للنصوص الجميلة ناهيك عن ضعف الكثير من الحداثيين في اللغة وقواعدها حتى أن بعضهم لا يعرف الفعل من الفاعل وغالبا ما تأتي أشعارهم مسكنه هروبا من القواعد التي لا يعرفها إلا المتخصصون ، الأمر الذي أدى إلى دخول الآلاف إلى هذا المجال ما دام صناعة الشعر أصبحت من أهون الصناعات إذا جاز لنا إطلاق هذا المصطلح على الحداثة والحداثيين .
والشعر هو ذلك الطير الخفاق الذي يجوب الآفاق ويقطف زهرة من هنا وزهرة من هناك ، يستشرف دمعة من هنا ودمعة من هناك ، يرى الطغاة والبغاة والمتكبرين ويرى الجوعى والحرقى والمقهورين ويرى عروش العشاق والحالمين ويرى دموع البؤساء والمكدودين وهو تصوير شامل لذلك كله ثم يعود إلى مرتعه الخصيب إلى ذات الشاعر ليبذر فيها ما بحوزته فينبت ذلك النموذج المتنوع من الإبداع الشعري الجميل .
فدواوين الشعراء ينبغي أن تكون نوافذ مفتوحة على الحياة والمجتمع وهي نوافذ متعرجة دائرية تبدأ من تأملات الشاعر ثم تتسع تماوجا دائريا حتى تشمل الكون بعامته ، أما الإنغلاق الشعري في عالم خاص والنوافذ مستقيمة على عالم أثير أو مدح أمير فهي وإن كانت من الشعر لا تعدو أن تكون من هزيل الشعر وهابطه . إذن فالشعر نبض الحياة بكل حركاته وسكناته ومضامينه وهو جوهر الحياة ومعدنها الأصيل ، والشعر لا يخضع للتطبيع أو التمذهب ضمن إطار محدد ولكن تكتشف من خلاله طبائع الشعوب وسماتها.
والشعر على مدى العصور والأزمان هو الشعر لا يلغي بعضه بعضا ولا ينفي بعضه بعضا وهو أمواج تتلاطم في البحر الكوني الواسع وهو متداخل في بعضه تداخل الموج في الموج لا يخضع لعملية جراحية لفصل بعض عن بعض أو نزع جزء من كل .