أستاذي الفاضل الدكتور / أحمد شفيق الخطيب
شكر الله لك جهودك الطيبة في تعريفنا ببدايات هذا الفرع من الدرس اللغوي الذي بدا لي جديدا كأن لم يخط فيه أحد من علمائنا حرفاً لولا أنني وقعت في كتاب البيان والتبيين للجاحظ على مبحث من أحد فصوله يتعرض فيه لهذا الموضوع . ولما لم أكن بعد قد اطلعت على كتاب الدكتور سري الشريف لأعرف ما إذا كان اعتمد في بحثه على كتاب الجاحظ أم لا ، وكذلك لم أجد في عرضه لفصول كتابه ما يشير فيه إلى جهود العلماء الذين سبقوه، فقد أحببت أن أعرض لكم الفقرات التي أفاض فيها الجاحظ بالشرح لما أسماه "باب تتقدم فيه الإشارة الصوت" ، قال :
" وجميعُ أصنافِ الدِلاَّلات على المعاني من لفظ وغير لفظ، خمسة أشياءَ لا تنقُص ولا تَزيد: أولها اللفظ، ثم الإشارة، ثم العَقْد، ثم الخَطّ، ثمَّ الحالُ التي تسمّى نِصْبةً، والنِّصبة هي الحال الدّالةُ، التي تقوم مقامَ تلك الأصنافِ، ولا تقصِّرُ عن تلك الدَّلالات، ولكلِّ واحدٍ من هذه الخمسة صورة بائِنةٌ من صورة صاحبتها، وحليةٌ مخالفةٌ لحِلْية أُختها؛ وهي التي تكشِف لك عن أعيان المعاني في الجملة، ثمَّ عن حقائقها في التَّفسير، وعن أجناسها وأقدارها، وعن خاصِّها وعامِّها، وعن طبقاتها في السارّ والضارّ، وعمّا يكون منها لَغْواً بَهْرَجاً، وساقطاً مُطَّرَحاً".
ثم قال عن الإشارة :
" قد قلنا في الدَّلالة باللفظ، فأمّا الإشارة فباليد، وبالرأس، وبالعين والحاجب والمَنْكِب، إذا تباعَدَ الشخصان، وبالثَّوب وبالسَّيف، وقد يتهدَّد رافعُ السَّيف والسَّوط، فيكون ذلك زاجراً، ومانعاً رادعاً، ويكون وعيداً وتحذيراً، والإشارة واللّفظ شريكان، ونِعْم العونُ هي له، ونعم الترجمانُ هي عنه، وما أكَثرَ ما تنوب عن اللّفُظِ، وما تُغني عن الخطِّ، وبعدُ فهل تَعدو الإشارةُ أن تكون ذاتَ صورةٍ معروفةٍ، وحِلْية موصوفة، على اختلافها في طبقاتها ودلالاتها، وفي الإشارة بالطَّرف والحاجب وغير ذلك من الجوارح، مرفقٌ كبير ومَعُونة حاضرة، في أُمورٍ يستُرها بعضُ النَّاسِ من بعض، ويخفونها من الجليس وغيرِ الجليس، ولولا الإشارةُ لم يَتفاهم النَّاسُ معنَى خاصّ الخاصّ، ولَجَهِلوا هذا الباب البتّة، ولولا أن تفسيرَ هذه الكلمة يَدخل في باب صناعة الكلام لفسَّرتها لكم، وقد قال الشاعر في دَلالات الإشارة:
أشارتْ بطَرْفِ العين خِيفةَ أهلِها ** إشارةَ مذْعورٍ ولم تـتـكَـلَّـمِ
فأيقنْتُ أنَّ الطَّرْفَ قد قال مرحبا ** وأهلاً وسهلاً بالحبيب المـتـيَّمِ
وقال الآخر: من الهزج
وللقلب على القلـب ** دليلٌ حـينَ يلـقـاهُ
وفي النَّاسِ من الناس ** مقاييسُ وأشـبـاهُ
وفي العينِ غنى للمر ** ءِ أنْ تنطقَ أفـواهُ
وقال الآخر في هذا المعنى:
ومَعشرٍ صِيدٍ ذوِي تَجلَّهْ ** ترى عليهم للنّدى أدلّه
وقال الآخر:
ترى عينُها عَيْنِي فتعرف وَحْيَهـا ** وتعْرف عيني ما به الوَحْيُ يرجعُ
وقال آخر:
وعينُ الفتى تُبدي الذي في ضميره ** وتعْرِف بالنجوَى الحديثَ المعَمَّسا
وقال الآخر:
العينُ تُبدِي الذي في نفسِ صاحبها ** من المحبة أو بُغضٍ إذا كـانـا
والعينُ تنطق والأفواهُ صـامـتةٌ ** حتَّى ترى من ضمير القلب تِبْيانا
هذا ومبلغُ الإشارة أبعَدُ من مبلغ الصَّوت".
فهل كان فيما ذكره الجاحظ ما يعد أصلا لهذا العلم ، وهل يجوز لنا القول بأسبقية علماء العربية القدامى في طرح وبحث مواضيع لم يتطرق إليها العلماء الغربيون إلا في منتصف القرن العشرين كما ذكرت، أم أنك ترى أنا كنا نخوض في مجال وكانوا يخوضون في مجال غيره .. أفيدونا ، أفادكم الله.