الأستاذ الفاضل الدكتور محمود حمد سليمان
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،وبعد،مسالة الريادة التاريخية في الشعر العربي الحديث تبقى إشكالية من الإشكاليات التي يصعب الفصل فيها في تاريخ الأدب العربي الحديث.
لقد طرحت مسالة الريادة التاريخية في القصيدة العربية غير العمودية بعد ظهور ديوان نازك الملائكة:شظايا سنة 1949 ورماد،و انقسم رأي النقاد إلى قسمين :
1 – رأي أقر لنازك الملائكة بالريادة التاريخية.
2- رأي ذهب إلى أن هناك تجارب شعرية عربية خرجت عن نظام القصيدة الكلاسيكي قبل ظهور ديوان شظايا ورماد.
لكن نازك عادت في كتابها قضايا الشعر المعاصر وناقشة هذا الرأي بقولها( عام 1962 صدر كتابي هذا وفيه حكمت أن الشعر الحر قد طلع من العراق ومنه زحف إلى أقطار الوطن العربي . ولم أكن يوم أقررت هذا الحكم أدري أن هناك شعرا حرا قد نظم في العالم العربي قبل سنة 1947 سنة نظمي لقصيدة الكوليرا . ثم فوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة قد ظهرت في المجلات الأدبية والكتب منذ سنة 1932،وهو أمر عرفته من كتابات الباحثين والمعلقين لأنني لم اقرأ بعد تلك القصائد في مصادرها.وإذا أسماء غير قليلة ترد في هذا المجال منها اسم علي أحمد با كثير ومحمد فريد أبي حديد ومحمود حسن إسماعيل، وعرار شاعر الأردن، ولويس عوض وسواهم.
ثم عثرت أنا نفسي على قصيدة حرة منشورة قبل قصيدتي وقصيدة بدر شاكر السياب للشاعر بديع حقي...).
تحاول نازك بعد هذا أن تشرح رؤيتها لمسالة الريادة التاريخية أن تحصر رأيها في أربع نقاط:
1-أن يكون ناظم القصيدة واعيا إلى أنه قد استحدث بقصيدته أسلوبا، وزنيا جديدا سيكون مثيرا اشد الإثارة حين يظهر.
ونحن لا نوافق نازك الملائكة على هذا العنصر لأننا لا نعتقد أن الشاعر الذي يخترق النظام السائد للنظم غير واع بما يفعل. قد يكون جزء من ميلاد القصيدة ينبثق من اللاوعي ولكن الوعي يتدخل في الأخير، ينظم ، يقدم، يؤخر، يحذف، ويغير.
2- أن يقدم الشاعر قصيدته تلك (وقصائده) مصحوبة بدعوى إلى الشعراء، يدعوهم فيها إلى استعمال هذا اللون في جرأة وثقة، شارحا الأساس العروضي لما يدعو إليه.
تنطلق نازك الملائكة في هذا العنصر من ذاتها الناقدة ، والشاعرة ،وتريد أن تعمم هذه الصفة على كافة الشعراء، وتحولهم إلى نقاد ومنظرين. ونحن نعلم أن من الشعراء من اكتسب العروض عن طريق الأذن الموسيقية وليس عن طريق القراءة.
إن هذه الصفة يجب أن تتوفر في الشاعر /الناقد الذي يسعى إلى استنباط القواعد من النصوص، والوقوف على مظاهر الجدة و التجديد، وليس شرطا أن يكون كل الشعراء نقادا.
3- أن تستثير دعوته صدى بعيدا لدى النقاد والقراء فيضجون فورا-سواء أكان ذلك ضجيج إعجاب أو استنكار- ويكتبون مقالات كثيرة يناقشون فيها الدعوة.
تجعل نازك الشاعر هنا مبشرا بلون جديد من النظم، وتشترط أن يستجيب النقاد والقراء ويكتبون مقالات كثيرة. وهذا الشرط( الاستجابة –والكتابة) حسب رأيي هو شرط خارجي عن الشاعر لا يتحكم فيه وإنما يخص درجة وعي وثقافة المتلقي. ولعل المتنبي خير من عبر عن مهمة الشاعر بقوله: أنام ملء الجفون عن شواردها، ويصهر الخلق جراه ويختصم. فالشاعر عليه أن يكتب شعرا وفقط.
4- أن يستجيب الشعراء للدعوة ويبدؤون فورا باستعمال اللون الجديد وتكون الاستجابة على نطاق واسع يشمل العالم العربي كله.
تربط نازك الملائكة نجاح الشاعر الرائد بالتبشير بدعوته و باستجابة الدعوة فورا وتعميمها لتشمل الوطن العربي كله.
ونضع خطا تحت "فورا" لنقول أن الأفكار الجديد لا تتقبل بفورية ،وإنما عادة ما تؤخذ بريب و بطء وهذا ما حدث مع حركة الشعر غير العمودي. ثم إن هذا الشرط نعتبره خارجا عن وظيفة الشاعر أيضا وفيه عناصر مكرورة من الشرط الثالث(الاستجابة، الانتشار الواسع), ومجمل القول: إن هذه الشروط لا قد لا تتوفر في أي شاعر من رواد الحداثة عدا نازك الملائكة.
بعد هذه الشروط تصل نازك إلى بيت القصيد: (ولو تأملنا القصائد الحرة التي ظهرت قبل عام 1947 لوجدناها لا تحقق آيا من هذه الشروط ،فإنها مرت ورودا صامتة على سطح تيار، وجرفها الصمت ،فلم يعلق عليها أحد ولم يتقبلها شاعر واحد).
و نختم تعليقنا بسؤال : هل يدان الشاعر بصمت النقاد؟ .
لقد حاولنا أن نناقش أراء نازك الملائكة الواردة في كتابها قضايا الشعر المعاصر حول الريادة التاريخية للشعر غير العمودي، ونحن نشاطر شلتاغ عبود وآخرون الرأي في أنه (لا يمكن أن نتصور الحركة الشعرية الجديدة مقطوعة الجذور بالتغييرات التي طرأت على شكل الشعر العربي في العصر الحديث على يد الشعراء المهاجرين وجماعة أبولو وغيرهم بل أن بعض الباحثين يرجع هذا التأثر غلى فترة زمنية أبعد من العصر الحديث بكثير وذلك حين" يقول:ولا أعتقد أن الثورة الشعرية التي بدأت في أواخر الأربعينات تنفصل عن تراثنا الشعري، وحركات التجديد العربية التي لم تتوقف منذ العصر الأموي حتى الآن ففي نسيجها العام خيوط كثيرة من تلك الحركات الجديدة).
وإذا كان الباحث يجد صعوبة في تحديد الريادة التاريخية في الشعر العربي الحديث،فإن الريادة الفنية- حسب رأيي- تبقى للشاعر العراقي السياب بدون منازع.
حسين فيلالي
المرجع من دراسة لنا غير منشورة بعنوان: مدخل إلى الشعر الجزائري الحديث.
المفضلات