*الأصابع الخارجية في الأحداث العربية!*


*احمد يوسف احمد*


مع اتساع نطاق التطورات التي يمر بها الوطن العربي في الآونة الحالية وامتدادها
إلى عديد من البلدان العربية، بدأت فكرة تتردد لدى البعض بأن هذه التطورات لا
يمكن أن تكون فعلاً ذاتياً من قبل الشعوب العربية، وإنما لابد أن تكون وراءها
أصابع تحركها قوى خارجية صاحبة مصلحة فيما يحدث. ذكَّر أصحاب هذه الفكرة بمشروع
الشرق الأوسط الجديد الذي فشل تحقيقه عن طريق تبني النظم العربية الحاكمة أو
العدوان الخارجي كما في حرب إسرائيل على لبنان2006، والتي صرحت وزيرة الخارجية
الأميركية آنذاك بأنها جزء من عملية بناء الشرق الأوسط المنشود. لم يبق إذن
–كما يذهب أنصار هذه الفكرة- إلا محاولة تحقيقه من خلال تطورات داخلية تضع
البلدان العربية على أول طريق هذا المشروع. يعزز هذه الفكرة التدخل اللفظي
أولاً بصدد ما يجري من محاولات للتغيير وصولاً إلى التدخل المسلح كما في الحالة
الليبية مؤخراً. بل إن البعض وصل به الأمر إلى الربط بين الأساليب الاتصالية
الحديثة التي استخدمها مفجرو التطورات الثورية العربية من الشباب، وما تردد من
أن بعضهم قد تلقى تدريبات على هذه الأساليب في الولايات المتحدة وبين أحداث
التظاهر والاحتجاجات التي استخدمت فيها هذه الأساليب على نطاق واسع. ولا ننسى
أن هذه الفكرة أصلاً هي التفسير الرسمي من قبل النظم الحاكمة في البلدان
العربية التي شهدت هذه الأحداث، فالأصابع الخارجية فيها ظاهرة وصولاً إلى حد
التآمر وفقاً لتلك النظم.

كنت قد كتبت في هذه الصفحة منذ وقعت أحداث الثورة التونسية أحذر من تبني "نظرية
الدومينو" بشأنها، بمعنى انتشار الثورة في كافة البلدان العربية على التوالي،
مذكراً بأن نبوءة كارل ماركس بشأن انتشار الثورة الاشتراكية لم تتحقق، دون أن
أنفي أنها يمكن أن تحدث في بعض الحالات كما تم بالنسبة للنظم الاشتراكية
السابقة في شرق أوروبا إبان الزلزال السوفييتي في النصف الثاني من ثمانينيات
القرن الماضي، وربما تكون تلك التطورات معززة للفكرة التي بدأنا بها باعتبار أن
الدور الخارجي فيها كان أكثر من واضح، لكنني انتهيت إلى أن العبرة في انتشار
الثورة بالعوامل الداخلية التي يحدد مدى نضجها للتغيير عملية الانتشار هذه من
عدمها. ولم تكن مصادفة أن محاولات التغيير هذه تركزت على البلدان التي طال فيها
بقاء الحكام، وبرزت مشاريع توريث السلطة لأبنائهم أو أقاربهم، لكنني يجب أن
أعترف أن عدد البلدان التي امتدت إليها تلك المحاولات قد زاد عن توقعاتي، وإن
بقي في إطار هذه التوقعات إذا اكتفينا بالحالات التي تبنت مطالب جذرية لتغيير
النظام.

ولنعد الآن إلى التعليق على فكرة "الأصابع الخارجية" في التطورات العربية، ثمة
ملاحظات عديدة في هذا الصدد نكتفي من بينها بالثلاث التالية. أولى هذه
الملاحظات أن التصريحات الأميركية والأوروبية تحديداً بخصوص تلك التطورات تميزت
بتذبذب ملحوظ، وكان واضحاً أنها لا تنبع من رؤية متكاملة تدل على أن أصحابها هم
المدبرون لهذه الأحداث، ففي البداية كانت الدعوة إلى "التسوية السياسية"
للمطالب، وعندما اشتد ساعد الاحتجاجات بدأ تأييدها، وتباينت درجة التأييد مع
قوة التطورات وضعفها، بل إن ثمة تراجعاً قد حدث في بعض الأحيان عن مواقف
بعينها، وعندما أصبح واضحاً أن الثورة قد حققت نجاحاً، أو هي بسبيلها إلى ذلك
بما لا يدع مجالاً لشك أيدتها تلك التصريحات بحسم، وهذا هو السبب المعلن لرفض
ممثلي شباب الثورة المصرية الالتقاء بهيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية
عندما زارت مصر مؤخراً، وذهبت إلى ميدان التحرير الذي شهد التطورات الأساسية
المتعلقة بهذه الثورة لأغراض الإعلام وإكساب السياسة الأميركية نوعاً من
الصدقية والشرعية، وهو ما يعني أن التحليل السابق ليس مسألة نظرية، وإنما هو
حقيقة شعر بها من شاركوا في التطورات الأخيرة.

أما الملاحظة الثانية فتشير إلى غياب المصلحة الأميركية تحديداً في أن تشهد
بلدان بعينها تطورات ثورية جذرية، وإذا كانت العلاقات الأميركية-المصرية في ظل
النظام السابق قد خدمت المصالح الأميركية عامة والإسرائيلية خاصة بتبني سياسة
من شأنها توطيد عملية التسوية السلمية الفارغة من أي مضمون، فإنه من الممكن
القول بأن سياسة النظام السابق كانت تختلف أحياناً مع السياسة الأميركية في
قضايا جوهرية أخرى، لكن السؤال يبقى: ما هي المصلحة الأميركية في سقوط النظام
اليمني الذي لم يترك شيئاً يرتبط بالتنسيق مع الإدارة الأميركية ضد ما يسمى
بالإرهاب إلا وفعله، بما في ذلك السماح بعمليات عسكرية محددة داخل اليمن ضد ما
يقال إنها عناصر إرهابية؟ وما هي المصلحة الأميركية في أن تشهد البحرين ما
تشهده من تطورات تسبب استقطاباً قد يمتد خارجها ويفتح الباب لمسارات أخرى؟ بل
ما هي المصلحة الأميركية حتى بالنسبة لإسقاط النظام الليبي نفسه الذي تخلى في
مواجهة الغرب عن كل سياساته السابقة، فأنهى برنامجه النووي، ودفع تعويضات
لوكيربي وغيرها، وأقام شبكة من العلاقات الاقتصادية تحقق بما لا شك فيه مصالح
القوى الكبرى بصفة عامة؟

في الملاحظة الثالثة يجب أن يكون واضحاً أن ما يحدث من تطورات في عديد من أقطار
الوطن العربي لن يؤدي إلى ظهور شرق أوسط جديد على الطريقة الأميركية، لكنه
بالعكس سوف يؤدي إلى بزوغ نظم ديمقراطية في بعض هذه الأقطار على الأقل من شأنها
أن تجعله أكثر ندية في مواجهة السياسة الأميركية باعتبار أنه صار يكتسب شرعيته
من شعوبه وليس من حكام يحتاجون الدعم الأميركي في قضايا أساسية، كما أن من شأن
هذه النظم أن تحسن الصورة العربية في الخارج، وقد كانت حتى الآن صورة شوهاء
تعتمد إسرائيل عليها في تمرير سياساتها تجاه العرب، ناهيك عن أن هذه النظم سوف
تكون الخطوة الأولى في عملية إعادة بناء القوة العربية، وهو تطور من الطبيعي أن
تقلق إسرائيل منه التي تعتمد على الضعف العربي المزمن في عملية انتشارها
السرطاني في الأراضي العربية المحتلة، وفرض هيمنتها في المنطقة بصفة عامة.

والخلاصة أن التطورات العربية الراهنة تحدث في منطقة مصالح حيوية هائلة
للولايات المتحدة والقوى الأوروبية الكبرى بصفة عامة، ولذلك فمن الطبيعي أن
تهتم كافة هذه القوى اهتماماً أصيلاً بما يحدث أو تحاول توجيهه لمصلحتها بعد أن
أخفقت في التنبؤ به، ووضع نهاية سريعة له تقوم على فكرة "التسوية" بين مطالب
المحتجين ومواقف النظم، لكن ملابسات تدخلها كانت من الوضوح بمكان بحيث أثبتت
أنها ليست الفاعل الأصيل فيما يجري، وقد سبقت الإشارة إلى "شباب التحرير" من
المصريين الذين أدركوا هذا المعنى، ورفضوا لقاء وزيرة الخارجية الأميركية التي
ذهبت إلى ميدان التحرير لأغراض العلاقات العامة وكسب الشرعية للسياسة
الأميركية. أقول هذا حتى لا يبدو أن تضحيات الذين فقدوا أرواحهم أو خاطروا بها
من أجل قضية يؤمنون بها قد ذهبت سدى لحساب "صناعة" خارجية مفتعلة، وأقوله أيضاً
امتداداً للمنطق الذي بدأت به حديثي في هذا الصدد في أعقاب أحداث الثورة
التونسية حتى لا يتصور أحد أن حلم التغيير لا ينتظر كي يصبح حقيقة سوى أن
تتذكره قوى خارجية ما بوزن الولايات المتحدة أو غيرها.

-