الأدب العربي المقارن
وهيمنة النموذج الإرشادي








لا يمكن النظر إلى بدايات الإشتغال بالأدب المقارن في الوطن العربي بمعزل عن الحراك الثقافي العام ، آنذاك ، وهو يسعى إلى تفعيل معاودة قراءة ذاته ، عبر وعيه الجديد بطبيعة المرحلة والتحولات المعرفية الكبيرة والمتنوعة ، وتجاوز مااتسمت به الإتجاهات الكلاسيكية قبل زمن الإنفتاح على الآخـر الأوربي ، من ثبوت فـي الرؤيـة والموقف عند منجز التراث والدعوة إلى تقليده وتكريس ثقافة مطابقته .
لقد عاش التلقي العربي مرحلة " الدهشة الجمالية " في تلك البدايات المشار إليها ، حيث كان استقبال نظرية الأدب المقارن يعني حضور المنهج النقدي الوافد ، الذي يهتم بمعاينة وفحص أوجه التشابه والإختلاف ومظاهر التأثير والتأثر بين الآداب المختلفة ، حضوراً فاعلا ًومُبهراً . وربما كان هذا مما يفسر سبب بداية الأدب العربي المقارن بداية ً(تطبيقية) متحمسة ًً، متمثلة ًبمقالات خليل هنداوي وفخري أبـو السعــود ، والكتب الثلاثـة التـي صدرت لنجيـب العقيقـي وعبـد الـرزاق حميـدة و إبراهيم سلامة .
ويتصل هذا الأمر بسياقه المعرفي إتصالاً وثيقاً ؛ إذ لم يكن الوعي العربي النقدي ، في صنع حداثته ، يسلك طريقا ًسهلة ، فقد كان عليه أن يواجه تحدِّيين كبيرين ، الأول: تحدٍ داخلي ويجسده من يرى في الثقافة الوافدة خطراً كبيراً يهدد خصوصيـة الثوابت الأدبية والنقدية والجمالية . ولا يُستبعَد دورُ الذاكرة الثقافية الغنية بالصدام والمواجهة بين العرب والغرب من المكونات النفسية والثقافية التي يتشكّل منها أفق الرافضين للإنفتاح على الآخر وحضارته . والثاني: تحدٍ خارجي ويتمثل في ضخامة المنجز وعمق التحولات الكبيرة التي شهدتها الميادين المعرفية المختلفة عند الآخر الأوربي ، مما يفرض جهوداً قرائية عربية متأنية ومضاعفة ، لفهم واستيعاب هذه التحولات ضمن سياقها التاريخي الخاص وملابساتها السوسيو- ثقافيـة ، إضافة إلى ضرورة إدراك حقيقة إنتقال هذه المنجزات إلى بيئة ٍجديدة و مغايرة . وسيفرض هذا الأمر على القراءة العربية أن تكون قراءة ًتفاعلية واعية ، تعيد إنتاج الثقافة الوافدة ، وتطمح بدأب إلى الإضافة إليها و تطويعها بما يتناسب مع الواقع الثقافي العربي وخصوصيته ،مقيمة ًتوازنها الخاص بين أن تكون مأخوذة ً بالانبهار أو منغلقة على ذاتها ، مؤمنـة بثقافـة الصراع .
ويعدّ ُكتاب د. محمد غنيمي هلال (الأدب المقارن) ، الذي صدر عام 1953، البداية المنهجية الحقيقية لنظرية الأدب المقارن في الوطن العربي ، إذ حرص مؤلفه ، القادم من السربون والمتتلمذ على يد أقطاب المدرسة الفرنسية (فان تيغم و جويار وكاريه)، على أن يعرض المنهج الفرنسي في الأدب المقارن عرضا دقيقاً ، يستوفي كل محاوره ، معتمداً في ذلك على أعلام المدرسة إعتماداً كلياً . وظل الكتاب في طبعاته اللاحقة محافظاً على منهجه هذا ، متوسعاً في إيراد الأمثلة والنماذج الإبداعية التوضيحية لما يقدمه من مفاهيم ومحاور نظرية .
لقد بقيت ثوابت المنهج الفرنسي الرئيسة تشكّل أصل الكتاب ومادته الأساسية، إذ عرض لما يحدده المنهج من المتطلبات العلمية والشرائط التي يجب توفرها في الباحث المقارني في محور (عدة الباحث في الأدب المقارن) ، ثم انتقل إلى رسم حدود (ميدان الأدب المقارن) و (عوامل العالمية في الأدب) ، وكيفية مقاربة المقارني لـ (الأنواع الأدبية) وتحديد ملامح (تأثير الآداب الأجنبية) وشرع بعدها في بيان ماهية (الأدب العام والمقارن) ، وخصوصية كل مفهوم منهما، ويقدّم المؤلف لذلك كله بتأكيد مُلحّ ٍ، لا تخلو منه مقدمة أية طبعة من طبعات الكتاب المتعددة ، على أن هدفه الأساس من عمله هذا هو ((الدعوة إلى العناية بالدراسات المقارنة والإسهام فيها ، وتشجيعها.))(1)
مما لاشك فيه أن كتاب غنيمي هلال مثـّل القراءة العربية الأولى لنظرية الأدب المقارن الوافدة، وهي قراءة يمكن تسميتها بـ (القراءة المطابقة) ، حيث أنها لم تتجاوز دور النقل والتعريف بالنظرية الوافدة ، إلى ما يمكن أن يقدم رؤية عربية أولية لهذا المنهج ، وعلى الرغم من ذلك فقد تحول الكتاب إلى نموذج مؤسس لبداية عربية في هذا الميدان، وامتد تأثيره إلى الكثير من المؤلفات التي ظهرت بعده .
ويُطلق العالم الأمريكي (توماس كون) على تشكّل مثل هذه الظاهرة في التاريخ ، إصطلاح (النموذج الإرشادي) ، الذي يتشكّل ((عندما يقدم فرد أو جماعة لأول مرة ، خلال عملية نشوء وتطور أحد العلوم الطبيعية ، صيغة ًتركيبية قادرة على اجتذاب الكثرة الغالبة من المشتغلين بهذا العلم من أبناء الجيل التالي ، فإن المدارس القديمة تبدأ في الزوال والإختفاء تدريجياً . ويرجع اختفاؤها من ناحية إلى تحول اعضائها إلى النموذج الإرشادي الجديد. ولكن يبقى دائماً بعض الأشياع الذين يتشبثـون بهذه النظرة أو تلك من النظرات القديمـة.))(2)
مارسَ كتاب د. غنيمي هلال ضغوطه ، نموذجاً إرشادياً ، في توجيه الدراسات والمقاربات الأدبية المقارنة ، لفترة طويلة جداً ، حرصت خلالها الكتب الصادرة على معاودة العرض التفصيلي للخطوط العامة للمنهج الفرنسي ، بذريعة متطلبات مرحلة النمو المنهجي والتمرس على فهم النظرية واستيعابها وترويجها ، لجدتها في الدراسات العربية . وهذا أمر لايمكن التسليم به إذا ماوقفنا وقفة ً فاحصة ًعند عقد الستينات من القرن المنصرم ، وهي الفترة التي شهدتْ فيها الثقافة العربية حراكاً تجديدياً وتجريبياً في المجالات المختلفة عامة ًوفي المجال الأدبي خاصةًً، إذ سنشخّص خمولاً وفقراً نقديين في حقل الدراسات المقارنة وبشكلٍ يؤكد انفصال حركة الإبداع العربي في هذا المجال عن سياقها العام . فلم يصدر في هذه الفترة سوى كتابين أحدهما لـ (محمد عبد المنعم خفاجة) وعنوانه (دراسات في الأدب المقارن) ، عام 1963، والكتاب الآخر لـ (حسن جاد حسن) يحمل عنوان (الأدب المقارن) عام 1967 . ويلتزم الكتابان إلتزاماً مسرفاً بالقواعد والحدود التي أرستها المدرسة الفرنسية ، وهما في ذلك كله يعتمدان بشكل كبير على كتاب غنيمي هلال ، ويجددان دعوتَه الباحثَ المقارني إلى إعتماد الرؤية الفرنسية رؤية ًشمولية ًمتكاملة المنهج في مقاربة الظواهر الأدبية المختلفة مقاربة مقارنية .
وفي الوقت الذي تجسد فيه مثل هذه القراءات العربية نمطاً لتلقي منجز الآخر ، على نحوٍ مطابق ، نجدها تنغلق على ذاتها مستبعدة ً الرؤى المغايرة (الوافدة أيضاً) من ستراتيجيات تلقيها وإذا ما ربطنا الظاهرة بسياقها العام المتسم بكثرة التحولات وقوتها وتنوعها في المجالات المختلفة إثر غزارة المعارف الأجنبية الوافدة وسعة الإنفتاح على الآخر ، يمكن أن نؤشر إخفاقاً واضحاً في البحث عن إجابات وافية لأسئلة المرحلة وحاجاتها المعرفية ، عند ما أسميناه بـ (التلقي المطابق) في القراءة العربية للأدب المقارن .
لقد تزامن هذا التوقف في التلقي العربي عند منجز المدرسة الفرنسية مع تجاوز أحد أعلام هذه المدرسة حدودها الصارمة في منهج المقارنة ، وهو (رينيه إيتيامبل) فقد عبّرتْ آراؤه ، التي تضمنها كتابه الصادر في باريس عام 1966* ، عن وعي كبير بخطورة ما طوّقت به الرؤية الفرنسية نفسها من قواعد وشروط منهجية، توسعت في إهتمامها بالتفاصيل والجزئيات التاريخية المتعلقة بحركة التأثير والتأثر بين النصوص وملاحقة الأدلة على قيام هذه الصلات ، مهملة ً الخصوصية الفنية للأدب . الأمر الذي يجعل من موقف التلقي العربي أكثر حراجةً وضعفاً أمام سؤال التقصير في المتابعة والتجديد .
وتجلت هذه الرؤية الأحادية ، فيما بعد ، في الكتب التي صدرت في العقود التالية ، منجزة ً تراكماً كمياً حرص في معظمه على تتبع مظاهر المثاقفة بين الأدب العربي والآداب الأخرى تأثراً وتأثيراً ، مثل : كتاب طه ندا (الأدب المقارن - 1975) ، وبديع محمد جمعة (دراسات في الأدب المقارن - 1978) ، وإبراهيم عبد الرحمن محمد (الأدب المقارن بين النظرية والتطبيق - 1978)، وكتاب د. أحمد درويش (الأدب المقارن ، النظرية والتطبيق 1984). وظلّ ذاك الشعور بضرورة إعادة عرض المبادئ الرئيسة للمقارنة كما نقلها غنيمي هلال ملازماً لمعظم هذه الأعمال ، وكأنها ((تفترض باستمرار جهل المتلقي بالمبادئ الأولية ، مما يفتح ثغرة واسعة ، في صيرورة الدرس ، حيث يعود به هذا التقليد إلى نقطة الصفر))(3) .
إن هناك ضرورة ملحّة في إعادة النظر بآليات القراءة بشكل مستمر ، و لا بدَّ أن يتم ذلك عبر وعي منهجي حواري يسترفد إجراءاته من صلته الدائمة بواقع التحولات الكبيرة التي تحدث في السياق الثقافي العام .ولعل هذا من أبرز ما يفتقـده الأدب العربي المقارن في قراءتـه للنظريـة الوافـدة .
إلا أننا لا بد أن نؤشر محاولات اجتياز لهذه الثوابت الضيقة ، تمثلت في جهود مقارنية عربية سعت إلى الإستفادة من آراء المدارس الأخرى في توسيع وتطوير مجالات البحث في الأدب المقارن . ويمكن أن نذكر من هذه الجهود دراسات د. حسام الخطيب ، ود. عبده عبود ، و د.عز الدين المناصرة ، و د. أحمد عبد العزيز وغيرهم ، وهي بحاجة إلى قراءة خاصة لا يتسع لها المقام هنا .
*******

الإحالات .................................................. ......................................


(1) الأدب المقارن : محمد غنيمي هلال ، دار العودة ودار الثقافة – بيروت ، ط 5 ، د.ت . مقدمة الكتاب ص : ج
(2) بنية الثورات العلمية : توماس كون ، تر. شوقي جلال ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت ، سلسلة عالم المعرفة رقم (168) ، 1992 ، ص : 48 .
* ترجم الكتاب إلى اللغة العربية : سعيد علوش ، وصدر عن الدار البيضاء عام 1987 .
(3) مدارس الأدب المقارن ، رؤية منهجية : سعيد علوش ، المركز الثقافي العربي ، ط1 – 1987 ، ص : 254 .