بسم الله الرحمن الرحيم...
سلام الله على الدكتور الكريم و الأخ الحبيب محمود حمد سليمان...
يقول الله عز و جل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }الأنبياء35
كل نفس ذائقة الموت لا محالة مهما عُمِّرت في الدنيا. وما وجودها في الحياة إلا ابتلاء بالتكاليف أمرًا ونهيًا, وبتقلب الأحوال خيرًا وشرًا, ثم المآل والمرجع بعد ذلك إلى الله - وحده - للحساب والجزاء.[التفسير الميسر].
فالابتلاء هو قضاء و قدر و موجود سواء في حالة وجدود الخير أو في حالة وجود الشر...
فلماذا الابتلاء و لا اعتراضا على مشيئة الله جل و علا...
فإذا كانت الحياة دار ابتلاء فالسؤال الذي يفرض نفسه منطقيا هو :كيفية النجاة من الابتلاء و عدم السقوط في الفتنة...يقول الله عز و جل في آيتين عن سؤال "الكيفية"...
1- {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }هود7
وهو الذي خلق السموات والأرض وما فيهن في ستة أيام, وكان عرشه على الماء قبل ذلك; ليختبركم أيكم أحسن له طاعةً وعملا وهو ما كان خالصًا لله موافقًا لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولئن قلت -أيها الرسول- لهؤلاء المشركين من قومك: إنكم مبعوثون أحياءً بعد موتكم, لسارعوا إلى التكذيب وقالوا: ما هذا القرآن الذي تتلوه علينا إلا سحر بيِّن.[التفسير الميسر].
2- {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }الملك2
الذي خلق الموت والحياة؛ ليختبركم - أيها الناس-: أيكم خيرٌ عملا وأخلصه؟ وهو العزيز الذي لا يعجزه شيء, الغفور لمن تاب من عباده. وفي الآية ترغيب في فعل الطاعات, وزجر عن اقتراف المعاصي.[التفسير الميسر].
فالآية الأولى تحت على الإيمان بالبعث...لأنه البعث من الغيب و المؤمن من يؤمن باليوم الآخر و هو يوم البعث...و بالتالي بين المولد و البعث من جديد هو ابتلاء فأيكم أحسن عملا من زمن الولادة إلى زمن البعث...لأن الموت في حد ذاته هو انتقال من حالة عالم الشهادة إلى عالم الغيب...فهو بوابة بين عالمين...
أما في الآية الثانية فهي دعوة صريحة ليتساءل الإنسان عن كيفية تصرفه في أمور الدنيا أمور الحياة و شؤون البلاد و العباد من سياسة و اقتصاد و أخلاق و ثقافة و أدب و فن و كل ما تتضمنه الحياة و مجالات نشاط الإنسان المتعددة و المتنوعة...
و هنا يبدو أن الابتلاء هو الإطار العام الذي يتحرك فيه الإنسان و يتقلب بين خير و شر دون أن يعلم علم اليقين إلا ما أمده الحق جل و علا من علم يفرق به بين الخير و الشر...بين الحق و الباطل...بين العلم و الجهل...
و الآية رقم 35 التي وردت في سورة الأنبياء الخير و الشر فتنة...فالفتنة لها مظهران فهي في الخير كما هي في الشر و العبرة فالكيفية التي يتعامل بها الإنسان مع الحالتين باعتبارهما حالتان موجودتان قد يتداخلان فيما بينهما على اعتبار أن اليقين الحق لا يملكه الإنسان و يملكه الحق جل و علا...و الإنسان بما له من علم يفرق إلى حد ما بين الخير و الشر لأنه في الأصل يحاول اتباع الفطرة التي تبتغي الخير و تنبذ الشر...
و إذا ما رجعنا إلى المقال و هو ما يحمل من الخير الشيء الكثير و لا يدعو إلى شر بكل تأكيد لأن النية صادقة سليمة بإذن الله جل و علا و لا أزكي نفسي و لا أزكي أحدا...
المقال الذي ذكرنا بحديث الرسول صلى الله عليه و سلم...
تخريج السيوطي : (الرافعي) عن أنس.
تحقيق الألباني : (ضعيف) انظر حديث رقم: 4024 في ضعيف الجامع.
الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها
فالحديث ضعيف و مع ذلك فالآية أقوى فالله عز و جل قد ذكر في القرآن الكريم ما يزيد على 30 آية ذكر فيها كلمة "الفتنة" على اختلاف مواقعها في مجال العلاقات التي تجمع بين الإنسان و ربه و الإنسان و نفسه و الإنسان و الإنسان...
و لذلك سأتناول إن شاء الله ما يزكي المقال الذي تناولت و في ذلك حوار لما ورد من الردود من الأحبة الكرام و في كل حوار خير على اعتبار أن الحق جل و علا حاور الشيطان اللعين فكيف و هو القائل أن الإنسان كان أكثر شيء جدلا كما ورد في سورة الكهف...و من الجدل ينمو العقل و تتضح الحقيقة...فمن الجدل الذي هو بالتي هو أحسن يصل الإنسان إلى ما أفضل...
و من الآيات التي ذكرت فيها الفتنة...يقول الحق جل و علا:
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ }البقرة191
واقتلوا الذين يقاتلونكم من المشركين حيث وجدتموهم, وأخرجوهم من المكان الذي أخرجوكم منه وهو "مكة". والفتنة -وهي الكفر والشرك والصد عن الإسلام- أشد من قتلكم إياهم. ولا تبدؤوهم بالقتال عند المسجد الحرام تعظيمًا لحرماته حتى يبدؤوكم بالقتال فيه, فإن قاتلوكم في المسجد الحرام فاقتلوهم فيه. مثل ذلك الجزاء الرادع يكون جزاء الكافرين.[التفسير الميسر].
و الحديث هنا و الخطاب موجه بين المؤمنين و المشركين و ليس بين المؤمنين و المؤمنين...كما هو واقع في العالم الإسلامي – العربي...فكل من شهد لا إله إلا الله فهو مؤمن... و معلوم أن الإيمان درجات ومستويات...فالمنافق مؤمن لكن إيمانه يمشي على رأسه و ليس على رجليه أما الكافر فهو ليس بمؤمن أصلا حتى تعرضه على ميزان العمل لترى مدى صحة اعتقاده فيما يؤمن به...و يظل المؤمن الذي لا ينكر وجود الله جل و علا و لكن يدعو إلى غير ذلك فهذا من قبيل من ابتلعه التيار الجارف من العلم كذلك الذي لا يسير على رجلين بل على رجل واحدة أو لا يرى بعينين و لكن بعين واحدة...و هذا موضوع آخر و إن كان كل المواضيع مرتبطة فيما بينها باعتبارها تتناول الإنسان و نشاطاته المتنوعة...
و أقتطف من مقالكم القيم هذه الفقرات:
والفتنة أشد من القتل وأكبر.. لأنها تُدخل مجموعات كبيرة من البشر في عالم التهيؤات والأباطيل والهواجس فيصير معها الصديق عدواً, والعدو صديقاً.. وتتحول فيها كتل بشرية غفيرة الى ما يشبه قطعان المواشي التي, بسذاجتها, تركض وراء الذئاب الماكرة, منحرفة عن أهدافها وحقوقها ومصالحها.
والفتنة أشد من القتل وأكبر.. لأنها تمزق المجتمع.. وتضرب وحدة الأمة.. وتبعثر طاقات الناس وتشل إراداتهم.. ناهيك عن أنها تعملق الأقزام وتقزِّم العمالقة, وتهيء المناخ المؤاتي للأعداء والانتهازيين والجبناء وأصحاب النفوس الدنيئة والرخيصة.
ولنا من أمثال التاريخ عبر ودروس ومواعظ.. ( فذكّر إن نفعت الذكرى ).
الفتنة هنا أخذت معنى الفوضى و التسيب و عدم التنظيم و إتباع بغير علم من لا علم لهم باعتبارهم ذئاب تنهش في عقولهم لتحولهم إلى وقو لنار تسري تحت الرماد...
و الفتنة كذلك أخذت في الفقرة الثانية معنى التشتيت و التمزق و ضرب وحدة الأمة...و تجعل من الأقزام عمالقة و الأغبياء عباقرة و من السذج علماء و فقهاء...
لو عدنا إلى الواقع و سألنا هذا الواقع أين هي وحدة الأمة التي تعصف بها "الفتنة"...ليست هناك وحدة الأمة بل هناك أمم تبحث عن الوحدة...فكل أمة تعيش مشاكلها و تحاول إيجاد الحلول المناسبة لها حتى يتسنى لها تغيير هذا الواقع المر و جعله أكثر حلاوة لو استطاعت إلى ذلك سبيلا...و كل أمة قد نهجت طريقا...ففكرة الثورة التي انطلق من تونس الحبيبة بشرارة الاحتراق الذي بلغ فيها الضغط أوجه حتى أشعل الكائن البشري النار في نفسه احتجاجا على أوضاعه و هو مثقف يعتبر من النخبة المثقفة الحاملة لمشعل محاربة الجهل الذي اتخذه السابقون درعا واقيا ليسكتوا به الأفواه المنادية بالعيش الكريم...و ما هو العيش الكريم في زمن الفتنة...؟في زمن السرعة زمن المعلومات زمن عولمة العالم حتى أصبح قرية صغيرة قليلة الخيرات رغم كثرة ثرواتها ورحابة أراضيها و شساعة بحارها....
أليس العيش الكريم هو تحقيق مقاصد الشريعة... من حفظ للعقل و الدين و النفس و المال و العرض... ؟
فهل إذا ما نادا أحد بالتغيير نعث بإيقاظ الفتنة...؟
هل ما حدث في مصر يعتبر فتنة أم تغيير و إصلاح و استبدال و استخلاف ما هو أفضل من سواه...؟
هل القتل الذي يعصف بليبيا و باليمن و بسوريا هو أفضل من الفتنة التي عاشتها تونس و مصر...أليس التغيير الذي وقع فيهما خير مما وقع في غيرهما...و ما يقع في باقي البلدان العربية أفضل بكثير من القتل الذي جعل المجتمع الدولي يجدها حجة و ذريعة حتى يتدخل بكل ثقله التكنولوجي ليفرق بين الإخوة الأعداء...أليست الحكومات هي التي وقعت في تناقضاتها حتى انفجر الشارع مطالبا بالتغيير...فوجد الواقف على باب حقوق الإنسان و مفهوم الديمقراطية الذي يشبه المطاط كل يقيسه على مصالحه و ليس على مبادئ الحق و العدل الذي دعا إليها الله عز و جل في كتابه و رسوله عليه الصلاة و السلام.. ليتدخل ليفض النزاع بالنزاع...
أين نحن من إيمان و أخلاق الصحابة رضوان الله عليهم...و رغم ذلك لما أراد بهم الله الفتنة كابتلاء سقطوا فيها ثم نجاهم الله جل و علا ليحق الحق كما جاء في قوله عز و جل كسنة ليس لها زمان و لا مكان...
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ }الرعد11
لله تعالى ملائكة يتعاقبون على الإنسان من بين يديه ومن خلفه, يحفظونه بأمر الله ويحصون ما يصدر عنه من خير أو شر. إن الله سبحانه وتعالى لا يغيِّر نعمة أنعمها على قوم إلا إذا غيَّروا ما أمرهم به فعصوه. وإذا أراد الله بجماعةٍ بلاءً فلا مفرَّ منه, وليس لهم مِن دون الله مِن وال يتولى أمورهم, فيجلب لهم المحبوب, ويدفع عنهم المكروه.[التفسير الميسر].
فالتغيير ابتلاء و الابتلاء فتنة إما باتجاه الخير أو باتجاه الشر و ذلك متوقف على كيفية تدبير القائمين على التغيير...فالفتنة ابتلاء و الابتلاء إما بالخير أو بالشر...لكن من يعلم الخير المطلق أو الشر المطلق غير الله جل و علا...لذلك جعل الله عز و جل الكيفية التي بها يدير الإنسان الابتلاء هي مناط الأمانة التي تحملها الإنسان و لم تتحملها السماوات و الأرض و الجبال...
فاللهم قنا الفتن ما ظهر منها و ما بطن...
قال الشيخ الألباني : صحيح سند الحديث : حدثنا أحمد بن حنبل ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية حدثني محمد بن أبي عائشة أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال .
قال الشيخ الألباني : صحيح سند الحديث : حدثنا مسدد أخبرنا المعتمر قال سمعت أبي قال سمعت أنس بن مالك يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وأعوذ بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات.
فتدبر قول الحق جل و علا:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ }البقرة159
إن الذين يُخْفون ما أنزلنا من الآيات الواضحات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به, وهم أحبار اليهود وعلماء النصارى وغيرهم ممن يكتم ما أنزل الله من بعد ما أظهرناه للناس في التوراة والإنجيل, أولئك يطردهم الله من رحمته, ويدعو عليهم باللعنة جميع الخليقة.[التفسير الميسر].
و الآية التي تلي الأولى فيها النجاة و الفوز و تجنب الفتنة إلى أبعد الحدود...
{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }البقرة160
إلا الذين رجعوا مستغفرين الله من خطاياهم, وأصلحوا ما أفسدوه, وبَيَّنوا ما كتموه, فأولئك أقبل توبتهم وأجازيهم بالمغفرة, وأنا التواب على من تاب من عبادي, الرحيم بهم; إذ وفقتُهم للتوبة وقبلتها منهم.
فاللهم اغفر لنا إن أخطأنا أو نسينا فإن أصبنا القول فذاك فضل من الله جل و علا.
تحيتي و تقديري...
المفضلات