الفصل التاسع


وفي الصباح جاء قرار من السلطات القضائية لتحويل السوداء ، لا يعلم أحد أين ، كان هذا الاجراء مفاجئ للجميع ، دخلت الحارسة أمرتها بجمع أمتعتها
الحارسة: انك محولة
السوداء: الى أين ؟ لماذا ؟ ..
الحارسة: لا أعرف ؟
السوداء: هل عرفوا من أنا ؟
الحارسة: أعرفي نفسك قبل
جمعت أمتعتها ، ولأول مرة تقدمت السجينات بمساعدات من ألبسة وأغطية وحتى بعض النقود ، التمسن منها المغفرة ... لم تقل شيئا وفاضت عيناها بالدمع وتبعت الحارسة دون كلمة ، تركت الصمت يخيم على القاعة ، يرسم لمسات الحزن والأسى على الوجوه ، وكأن على رؤوسهن الطير ..
في مكتب المدير شرطيين ، أحدهما يحمل ملفا ، والآخر بيده القيود ، وظهر الأسى تحت ابتسامة الحنو على وجه المدير ، كأنه يقول لها العين بصيرة واليد قصيرة ، نظرت اليه خضراء بجرأة لم تعهدها ، تثاقلت رغم أمرها باتباعهما ، تنهدت بكل هدوء لدرجة أحرجت المدير ، فاختفى الرفق وترك مكانه للخشونة وشرارات العنف ، الا أنها بالنسبة لسوداء جاءت متأخرة ، كان الخطاب حينها قد مر وفعل مفعوله وبلغ الرسالة، رغم كل التحديات وعقم النفوس الجحودة والقلوب التي صهرها القانون حتى أصبحت مقامع من حديد .. الشوارع كالعادة مكتظة ، والحركة الدؤوب في كل الاتجاهات ، يتجهون حيث يشاؤون ، لا قيود ولا حراس ، رغم هذا كانت خضراء تنظر اليهم سجون متنقلة ، تحركها أياد وألسنة خفية .
في قصر القضاء والقدر ، كان وكيل الجمهورية في انتظارهم ، جلست أمامه ، ينظر اليها بعيون الفراسة المصطنعة ، لم يلاحظ عليها الانهزام والمسكنة ، كانت عادية الى أبعد حد ، لم تتجاوز خلاصته جمالها ودقة ملامح وجهها التي تنطق بالبراءة ... فقال: سنحولك الى المستشفى ، وبعد التقرير الطبي اذا لم تستعيدي ذاكرتك سنكون مجبرين بمحاكمتك ، لأن الأدلة كلها ضدك .في هذه الفترة ستكونين معزولة تحت الاجراءات التي يتطلبها العلاج . طوى الملف ، سلمه للشرطي ، وأشار اليه بالانصراف بها حيث أمر ، وضع لها القيود و خرجوا بها.
كانت غرفة المستشفى أسوأ من السجن ، تهيأ لها في أول الأمر أنها في ثكنة ، وفي الأخير علمت أن هذا الجناح كان خاصا بسجناء الرأي بعد التعذيب ، جناح تابع لمصالح الصحة العسكرية .. سكنها الرعب في الأيام الأولى وهي تسمع ما يعانيه المرضى من ضرب وشتم وسب رغم طمأنتها من طرف الممرضة ، وأن هناك مرضى مسكونين بالعنف ، يجب أن يعاملوا كذلك حتى اخراجهم من هذه المرحلة .
كانت الحصص الأولى عبارة عن حوار عادي ، يتكرر أحيانا ، وأحيانا يدفعون بها الى العمق ، كانوا يعاملونها برفق ، أسئلة بسيكوتكنيكية ، ثم جاءت مرحلة الصدمات ، حاولت أن تبقى هنا زمنا أطول ربما تجد مخرجا يساعدها على الخروج من هذا المأزق ، تعرفت في هذه الفترة على طبيبة ، وربطت معها علاقة صداقة حميمية ، كانت تثق بها كثيرا ، كانت أقربهن ، هذه الطبيبة قد حضرت رسالة دكتوراه في الانفجارات النفسية لاعادة الذاكرة ، رفضت اللجنة ايجازتها ، فأرادت أن تجرب اكتشافها على خضراء ، الا أن لا المكان ولا الوسائل متوفرة للقيام بذلك ، وبدأت تخطط لاخراجها من السجن الى بيتها ، يدفعها حماسها لرؤية نتائج تجربتها ، وطيبة خضراء المستسلمة ، واستطاعت أن تنظم عملية فرار السجينة بعد أن ناولتها حبوب منومة ، وضعتها في غرفة في قبو بيتها ، لما استيقظت وجدت نفسها في غرفة جميلة تتوفر فيها كل مستلزمات العيش الكريم ... تتساءل بغرابة أين هي ؟ وماذا تفعل هنا ؟ وما هي الا لحظات حتى دفعت الطبيبة الباب ودخلت ...
الطبيبة: والآن بماذا تشعرين ؟
خضراء: هل أطلقوا سراحي ؟
الطبيبة: عن قريب .. أعجبتك الغرفة ؟
خضراء: جميل جدا ، سرير ، ثلاجة ، مروحة ، مرش ، طاولة كراسي ، كأنني في فندق
الطبيبة: هذه غرفة خاصة لمعالجة الاطارات السامية ، نحن الآن في الجناح السفلي للمستشفى العسكري ، حولناك هنا لكي نوفر لك كل أسباب الراحة والعلاج .. اسمعيني جيدا ، انك تحت مسؤوليتي ، أنت الآن أقرب ما تكوني طليقة وحرة في حدود هذه الغرفة ، لا أخفي عليك ، الطريقة التي سأستعملها معك لارجاع ذاكرتك هي من ابتكاري ولا تزال في مرحلة التجربة ، أتمنى أن تكون نتائجها كما نرجو
خضراء: ستفوزين بدون شك وسأستعيد ذاكرتي ، أنا تحت تصرفك ، افعلي بي ما تشائين ، على كل حال مصيري الاعدام ... على يدك أفضل من يد الجلاد .. شدتها من منكبيها .. نظرت اليها نظرة حنو وشفقة واعجاب ، ثم ضمتها الى صدرها وقالت: لا تخشي شيئا سأكون معك ، ومهما كانت النتائج ، ولا يكون الا خير ... سنبدأ هذا المساء ، أنصحك فقط أن لا تحاولي الخروج من هذه الغرفة ، أغلقت الباب وانصرفت تتنفس نشوة السعادة .
حينها كانت المستشفى في حالة استنفار ، أغلقت أبوابه وحاصرته قوات الأمن من كل جهة ، وجهت أصابع التهم الى العصابة ، وبدأ التحقيق بحثا عن المتورطين ، وصل الخبر الى مقر الأمن الولائي ، فبادر بتعليق صورها في كل مراكز الشرطة والدرك والمكاتب الأمنية ومصالح العبور والموانئ والمطارات والمراكز الحدودية ، هذا الاعلان أربك العصابة ، وبدأوا بتغيير مواقعهم واستراتيجيتهم وخططهم ، من هذه السوداء التي استطاعت أن تتوغل في وسط المافيا ولا يعرفها أحد ، تصدرت صورتها الصفحات الأولى من اليوميات وظهرت على شاشة التلفزيون على أنها أخطر امرأة عرفها عالم المخذرات والتهريب ، وأصبحت مطلوبة حتى من طرف الشرطة الدولية ،وتحولت الأجهزة الأمنية الى ميدان السباق مع الزمن ، وبدأت الاعتقالات العشوائية ، انها فرصة الانتهازيين لاستبزاز البعض وتحطيم نفوذ الشارع والعشائرية ، جمعت اعترافات كثيرة شملت الكثير من القضايا ، سرقات وبعض الحماقات والانحرافات وغيرها ، اعترف الكثير بجرائم لم يرتكبوها ، وتشكلت عصابات جديدة ، جمعتهم العصى لينتقموا بعد خروجهم من السجن ، وهكذا تكون مصالح الأمن قد فككت شبكات خطيرة كانت تنشط في ميدان الجريمة ، يستفيدون قريبا من العفو في المناسبات القادمة، أما على المستوى العالي ، لقد أدى الأمن ماعليه ، وقد ألقي القبض على أخطر مجرمة في حاجز أمني والأخرى في حالة فرار وعيونهم على الجميع ، تقريبا في بلدنا لكل مواطن بوليس يحميه ويحافظ على سلامته وأمنه ، ولكل خمسين تلميذا معلم ، وللآلاف طبيبا وللملايين مختصا ، يروضون كلهم بالعصى يوم الاحتجاج .. ستقع في قبضتهم وتستعيد الذاكرة ، ويقبضون على رأس العصابة وعناصرها .
في مساء ذلك اليوم ، ولما عادت الطبيبة وجدت خضراء قد رتبت الغرفة وجلست تطالع مجلة في علم النفس ، وبمجرد ماسمعت وقع أقدامها هبت الى الباب عانقتها و صاحت :
- لقد استعدت ذاكرتي ، نعم استعدت ذاكرتي
الطبيبة: صحيح ، كيف ذلك ؟ لم ينته العلاج بعد ، لازلنا في الطور الأول
- اسمي خضراء كنت أعمل ممرضة ، أعيش عند أب وأم بالتبني ، وبدأت تسرد قصتها منذ طفولتها
الطبيبة: الوحيد الذي يمكن أن ينجيك من حبل المشنقة هو سائق الشاحنة ، ولكن قد مضى على الحادث أكثر من سنة
خضراء: لا تحاولي ، أسلم نفسي للأمن
الطبيبة: بهذه السهولة ، وكيف يكون مصيري أنا ؟ ولماذا أنت مستسلمة الى هذا الحد ، يجب أن تبحثي عن تبرئتك ، اذا وصلت بين أيدي الشرطة ستكونين كبش فداء ، لا تتصوري أنهم سيعاملوك بنفس الطريقة التي كنت فيها فاقدة لذاكرتك ، ستذوقين كل أنواع العذاب ، هكذا يفتكون الاعترافات ، انها امتدادية الأساليب الاستعمارية ، بعد الاستقلال توقف ضمير السلطة عن التفكير والابداع في كل مجالات الحياة ونقلوا كل شيء جاهز ، انه حكم الآلة المادية التي لا ترحم ، تنكروا لكل شيء وتبنوا الاحمرار حتى اسود
خضراء: انك تخيفيني
الطبيبة: يا خضراء ، اني أعمل في مجال الطب النفسي منذ مدة ، وما تحوله السلطات الأمنية الينا لعلاجه صور مفجعة وشيء فظيع جدا لا يكاد يتصوره عاقل .. أفضل لك الانتحار قبل الوقوع بين أيديهم وخاصة وأنت بريئة كما تدعين ، لأن ليس لديك ما تنقذين به نفسك سوى الاعتراف بجرائم ليس لك حتى القدرة على التفوه بها ، ستكونين ما أرادوا ...
خضراء: ماذا أفعل ؟
الطبيبة: اتركي لي الأمر سأتصرف ، أنصحك أن لا تغادري هذه الغرفة ، فاذا خرجت من هنا فأنا لا أعرفك ... صدقيني يمكن أنك لن تجدي في هذا المكان ما يذكرك بي ، و أصدقك القول ، أنت هنا لست في المستشفى العسكري ، أنت في بيتي ، ولا أحد يعرف أنك هنا ، صورتك في كل مكان ، هربتك من السجن لأقوم عليك بتجربتي ، أنت الآن في حالة فرار .
خضراء: وأنا أصدقك القول أن ذاكرتي استعدتها آخر أيامي في السجن وكتمت الأمر حتى أعرف مصيري
الطبيبة: غير معقول ! .. أنت تمثلين ؟
خضراء: أعاهدك مهما كان الأمر لن يعرف أي أحد عنك شيئا ، واذا اشتد علي العذاب سأنتحر
الطبيبة: غدا الجمعة يوم اجازتي ، سنتحدث بالتفصيل .
انصرفت الطبيبة وهي تفكر في طريقة تتخلص بها من هذا الفخ الذي أوقعت نفسها فيه .
لأول مرة تفكر خضراء بجد في قضيتها وعرفت أن الاستسلام لحكم المشنقة تهور وأن حق الحياة ثمين جدا ، والحياة في حد ذاتها أغلى من أن تزهق روحها مجانا ، تستعيد صور السجينات ، ضحايا يدفعن الثمن مرتين بل مرات ، تقف عند كل واحدة منهن ، لكل واحدة قصة أغرب من الخيال ، انه ثمن الحرية التي يزعمون ، دائما هي التي يتاجر بها ، هي التي تغتصب ، هي متعتهم وموضع انتقامهم ، من المدرسة الى الثانوية الى الجامعة ، من البيت الى الشارع الى أماكن اللهو ، الى المكاتب والمصانع ، انها اللعبة والمتعة التي أدمن عليها الرجال ، انها البضاعة بأبخس ثمن ، يجب أن تدفع الكثير حتى تستطيع أن تندمج حتى الموت ، تباع لها وليس لها الحق أن تموت مجانا ، ما وصلت المرأة الوظائف السامية ، حتى أعطت آلاف النساء كل شيء ، ولم تعد تمتلكن حتى أجسادهن ، انه الطريق الوحيد لترقية المرأة ، تذكرت ما تعانيه المرأة من فساد في المستشفيات والمستوصفات والشوارع ، الجنس ، الخمور ، المخذرات ، الجريمة بمفهومها الواسع توظف فيها المرأة ، انها الملح الذي يعطي النكهة الطيبة لكل الجرائم ، ندمت على عودة ذاكرتها ، تفكر في حالها ، طردوها بكل براءتها ، فكيف لها أن تعود وهي اليوم أكبر مجرمة في العالم ، من يقبل بها ؟ .. وبدى المجتمع في صورته الوحشية ابتداءا من أبيها وأمها بالتبني ، الى ثورة ، الى العمة ، وحده المبروك ، لا يشبههم بطيبته ورقته وحنانه وتسامحه ... كذلك كريم ، ولكن بعد كل هذا سيتغير هو كذلك ، لم يبق له الا هذا الجسد المجرد من كل القيم .. شدها الحنين لأول مرة ، أحست بالدموع تتكركب على خدها كأنها البرد ، حامية فوق خديها ، لأول مرة تبكي برغبة كاسحة تسكب العبرات من عمق العاطفة ، استعادت كل شيء ، أحست أنها خضراء ، خضراء زمان ، ذكرها آذان الفجر بخروجها من البيت في ذلك اليوم الممطر البارد .. يجب أن أخرج من هنا ، مرت على المطبخ ، في الدرج وجدت بعض الدنانير أخذتهم وخرجت .. الى أين ؟ لا تدري ؟...














الفصل العاشر


كان القلق باديا على وجوههم ، توترات ، غضب ، كان الجو مشحونا ، كلهم على الأعصاب .
كريم: أين الوالدة ؟
الأب: في المستشفى
كريم: خير ؟
الأب: وهل تركت لنا اليابسة من الخير شيئا ؟ هل رأيت ؟ هل تأكدت الآن ؟ ، الصحف ، التلفزة ، وألسنة الناس ، منذ أسبوع لم أخرج من البيت .
ثورة:كارثة هذه اللعينة ، أدخلت العار الى الدار
العمة: سوف تقضي على الحاج ، القتل فيها حلال
الأب: كل هذه المصائب جلبتها لنا سترة أمك بهذه اليابسة ، سامحها الله .
لم يقل كريم شيئا ، كان متعبا الى حد الارهاق ، لا يزال مفعول ليلة الحجز لم يختف ، كانت أعصابه أكثر توترا منهم ، يتمالك بصعوبة و يتصرف بهدوء ، وضع محفظته في غرفة المكتب وعاد
الأب: الى أين ؟
كريم: الى المستشفى
الأب: استريح ، انها في طريقها الى البيت مع الممرضة .. استرح أنت ..
ذهب الى غرفته ينتظر عودة أمه ، لم يخبره أحد ، كأنها غفوة أخذته ، استوى واقفا ، فتح الباب يتحسس ، كانت الأم في غرفتها ، دخل قبل جبينها ، وأخذ يدها بين يديه ، جلس بجانبها ينظر اليهم يتوعدون يشمئزون ، يعيرون ، كلهم سخط على خضراء ، أمه كان يظهر على وجهها نوعا من الأسى والحزن ، تريد أن تقول لهم أتركوني وحدي أجتر فاجعتي في خضراء ، قرأ في عينيها انتصار الندم فقال: هوني عليك يا أمي ، مستحيل ، لا أصدق أن خضراء بين عشية وضحاها تصبح مجرمة خطيرة ، لا ، ولن أصدق
الأم: المحب ساذج يا بني ، حديث القلب لا ينجيها
كريم: أتمنى أن تسلم نفسها حتى نستطيع أن ندافع عنها ، هروبها عقد الأمر أكثر ، أظنها أذكى من أن تورط نفسها أكثر ، لا بد في الأمر سر .
رن جرس الهاتف في الصالون ، أسرعت ثورة ورفعت السماعة
- من ؟
- ثورة ، أنا خضراء
- اللعنة ، ماذا تريدين أيتها الشيطانة ، مجرمة ، أفسدت علينا حياتنا .. وماذا بعد ؟ .. ماذا ؟ ، تنتظر الرد .. لا أحد سوى رنين الهاتف ، لقد انقطع الخط .
- كلهم: من خضراء ؟
ثورة: نعم هي الأفعى
كريم: ماذا قالت ؟ أين هي ؟
ثورة: شتمتها وسبيتها
كريم: لماذا ؟
الأم: لماذا ؟
خيم الصمت ، كلهم ينظرون اليها بعيون الاستغراب ، حتى الأب
كريم: كان من الممكن أن أقنعها لتسلم نفسها
ثورة: كلمتنا لتتشفى فينا
كريم: ماذا قالت ؟
ثورة: ألو ، ثورة ، أنا خضراء
كريم: فقط ؟
ثورة: لم أترك لها الفرصة لتقول أكثر
كريم: خطنا مراقب ، لو أطلت معها الحديث لتمكنت الشرطة من تحديد مكانها و القاء القبض عليها ، لا شك أنهم الآن في طريقهم اليها
وهم على هذا الحال حتى رن جرس الهاتف من جديد ، فأسرع كريم
- ألو .. من ؟
- أنا سعاد الممرضة ، صديقة خضراء
كريم: مرحبا
سعاد: لقد هتفت لي خضراء الآن ، وقالت لي بلغي أمي وأبي وكريم أنني سأنتحر ، وقولي لهم سامحوني
كريم: تنتحر ؟ .. أين هي ؟
سعاد: لم تقل لي شيئا أكثر من هذا وقطعت المكالمة ، أنا لا زلت تحت الصدمة ، ماوجدت ما أقول لها ، بهتتني ..آسفة على هذا الخبر ولكن ألحت علي لأخبركم .
وضع كريم السماعة ، كان الجميع يحيط به ، حتى الأم ، نظر الى ثورة نظرة اشمئزاز و تذمر ثم قال: انتهى المسلسل ، لقد انتحرت خضراء ، ارتاحوا الآن
الأم: خضراء انتحرت ؟! بنيتي خضراء انتحرت ؟ ..
وانهارت بالبكاء .. سامحيني يا خضراء ، كنت أشجع مني ، أنا السبب في شقائك وتعاستك ، يا ويلي ما أفظعني ، أنا جبانة .
وهي تضرب صدرها وفخذيها وتلطم وجهها حتى أغمي عليها
الأب: لم ترحمنا حتى وهي ميتة ، انها اللعنة التي تقتلنا جميعا ، كنت متوقعا نهايتها هكذا
العمة: ليس لها أفضل من هذه النهاية الا أنها تأخرت كثيرا ، لو انتحرت قبل الفضيحة ، أما الآن ما الفائدة .. عرفت كيف تموت اللعينة
كريم: التزمي حدك يا عمة ، ماذا تريدون منها ، لم يبق منها شيئا
الأب: انها أختي يا كريم ، عمتك ، أما خضراء فهي لقيطة لا تستحق حتى الذكر ، لقد نالت جزاءها ، انه حكم الضمير يا كريم ، اذا كان قد بقي لها منه نصيب .. التمس من عمتك المعذرة
نظر اليه كريم ، ثم انكب على أمه التي كانت في حضنه ، وهو جالس على ركبتيه ، يرشها بالماء البارد والعطر ، كانت تستعيد وعيها
ثورة: كدت أن تقتلها من أجل اللعينة ، فالتمت بعيدا كالكلب في حضن الشيطان ، اللئيمة
كريم: أرجوك يا ثورة ، لا تدفعيني لتصرف أحمق ، التزمي حدك ولمي لسانك
الأب: كفى ، لقد اختفى الكابوس الذي كان يؤرقنا جميعا ، ماتت موتة الكلاب
كريم: أبي أرجوك ، لقد انتهى كل شيء ، تلك هي وكانت حية ، أما الآن وهي ميتة ؟
أحال الأب نظره الى الأرض واغرورقت عيناه ، يحاول عبثا اخفاء تشقق قساوته وانهيار مشاعره ، شيء ما وخز عمق العاطفة .. فانصرف وتبعته ثورة ، كانت الأم قد استوت على الأريكة فجاءت العمة بكوب من عصير الليمون قدمته اليها باردا بماء الزهر ، شربته ، وانصرفت هي كذلك وتركتها مع كريم في الصالون .. ابتسمت له ، وأخذته من يده تدلكها ، أرادت أن تقبلها فسحب يده وعانقها ، وضعت رأسها على صدره ، كانت لحظات من فيض المحبة والحنان ، أحست بالراحة ، رفعت رأسها ، وجدته ينظر اليها برفق يسع كل القلوب المتألمة وضجر نفوس العالمين ، فأشارت اليه ليقرب منها أذنه وهو يبتسم ، فقالت: كريم يا بني ، أريد أن أبوح لك بسر كتمته أكثر من خمس وعشرين سنة ، لا يعرف حقيقته أحد ، الا عمتك والمبروك والقابلة ، واني أحس أن نهايتي اقتربت ، لعلي لن أصبح غدا معكم ، تفاصيل ما سأقوله لك عند القابلة ، لست على استعداد لاعطائك أكثر مما سأقوله لك .. اني أشعر الآن بتنمل أطرافي السفلى ، شيء ما يصعد معي كأنه الموت
كريم: هوني عليك أمي ، أنت بخير
الأم: لا يا بني انها النهاية .. خضراء أختك
كريم: أعرف ذلك
الأم: كيف عرفت ؟
كريم: أخت بالتبني
الأم: خضراء أختك شقيقتك من أمك وأبيك ، أنظر الى صورة جدك انها نسخة منه ، الا أنها هي سوداء وهو أبيض ، لا أدري كيف جاءت سوداء ، وهذه هي سبب مأساتي وسبب مأساتها ، فتدارك الأمر وأصلح ما استطعت ، وحادثة ذهابها من البيت افتعلتها أنا ، أردت أن أقتلها فانتقم القدر مني ...
صدمة أخرى ، فاجعة أخرى ، تجمد ، كانت حينها أمه تحتضر ..
كريم: أمي .. أمي .. أرجوك أمي ... يارب لماذا ؟ .. لماذا ؟ .. احتضنها وأسرع الجميع ، ولكن التحقوا متأخرين ، لقد فاضت روحها ، جسد هامد تزينه ابتسامة خرجت من أدغال الماضي ، كأنها شعاع ضوء أضاء الوجود .
قام كريم ، ينظر الى أبيه وأخته وأخيه وعمته بعيون الاستغراب ، لا يدري ماذا يقول عن غربة الذات التي عاشتها خضراء كل هذه المدة ، وكان اكتشاف هذا السر أكبر عنده من مصيبة الموت .
تمت مراسيم الجنازة ، وتفرق الجميع ، وكريم يكتم السر كبتا ، ماذا سيكون موقف الأب اذا علم بالخبر ، انه رجل خشن ، فض ، صعب المراس ، لا شك سيطعن في عفاف وشرف الأم ، حتى ثورة لا يأمن شر لسانها والعمة أكثر ، يفكر كيف يثبت براءة أمه ، تذكر المبروك ، يا للهول ، ويا للمصيبة ، ستثبت التهمة عليه ، ولن يبق الأب مكتوف الأيدي ، لا يزال يحمل غطرسة الأعراب ، لن يتبين ، سينتقم منه ، تذكر القابلة التي يمكن أن تفجر القنبلة قبل أوانها ويسمع القريب والبعيد ، ان الدفاع عن القلوب أهون من الدفاع عن الضمائر والقلوب
الأب: منذ ماتت أمك أراك تسرح كثيرا ، غائب عنا ، تتحاشى الجلوس معنا ، كأنك تحملنا أسباب موتها
كريم: أبدا يا أبي ، علاقتي بأمي كما تعرفها كانت جد مترابطة ، لدرجة أنها كانت يرحمها الله تخدمني بنفسها رغم مرضها وضعفها ، لا تنام حتى أدخل ، لا يطيب لها أي شيء قبل أن تراني ، كانت أقرب الناس الي ، ولهذا اني أحس بفراغ فظيع ووحدة قاتلة ، في بعض الأحيان أتمنى أن لا أدخل البيت ، لا يزال طيفها يملأ المكان
الأب: كلنا نحس بذلك ، كانت تحتوينا جميعا ، أفاضت علينا من عطفها وحنانها وحبها من الود والرحمة ماكان ينسينا كل متاعب الدنيا
كريم: أستأذن يا أبي ، أشغال كثيرة تنتظرني
الأب: لا عليك يا بني ، تفضل
انصرف كريم الى غرفة مكتبه ، رتب وثائقه في محفظة وخرج ..
وجد مساعده قد أعد كل الملفات ، حضر المذكرات ، رؤووس أقلام لخطة الدفاع ، ناقشها معه بصعوبة ، لم يكن ابن يومه في ذلك النهار
المساعد: الصراع بين الحق والباطل لن ينتهي
كريم: بدأت أشك في نزاهة كل المحامين ، العدل يا أخي شيء مطلق ، والقضاء والمحاماة وجهين لعملة واحدة ، اذا زور وجه واحد لن تبق صالحة للاستعمال والتداول
المساعد: هكذا أرادوا أن يكون هذا الوطن ، حقل للتجارب الفاشلة في كل شيء
كريم: أنظر الى هذه القضايا الثلاث التي درسناها ، هل تحتاج الى محام ؟! ولكن خوف الناس من ظلم القضاء جعلهم يتحملون الأعباء والمصاريف ، رغم هذا ليسوا مطمئنين على حقوقهم ، بل منهم من يتنازل عن حقه حتى لا يقف أمام القضاء ..
المساعد: كلما كان القضاء مهلهلا تزايدت الأمراض الاجتماعية والآفات ، واختلت كل التوازنات وفسدت كل التوقعات وفشلت كل البرامج ، لأن الانسان هو المحور الأساسي في قيام العدل ، وهم يعتمدون على النص الزاجر وحده ، النص الحافي المجرد من الروح الانسانية ، حتى تظن أن المشرع عندنا انسان آلي من ابتكار وصنع الخيال الغربي
كريم: بهذه التركبة تبتعد المركبة بنا ، وتسير نحو الغرق ، لا يزال الكثير يقول أن القاضي ليس حرا ، يمكن ذلك في بعض الحالات ، أما في البعض الآخر ، هي كلمة حق أريد بها باطل .. عند الأمم المتحضرة القضاء طبيب ماهر وليس جلاد قاهر
المساعد: ماذا حصل ؟ ماهذه القفزة النوعية في التفكير والطرح ؟ أذهلتني ، انك تتعلم بسرعة
كريم: صدقني تعلمت منك الكثير ، انك موسوعة .. أشكرك على الثناء ، اني الآن ذاهب الى مدرسة اعادة التربية .
دخلت عليه والبأس قد بلغ منها حده الى درجة الاستسلام برضى ، وظهر على وجهها عدم الرغبة في الكلام
كريم: طاب يومك ..لم أكن أتوقع أنك ضعيفة الى هذا الحد ، كانت الوالدة دائما تصورك لنا المرأة الحديدية التي لا تكل ولا تمل ، أراك اليوم منهزمة
القابلة: أخطأت كثيرا يا بني في حق الكثير ، لا يهمني الآن الحكم ولا المصير ، ضميري يعذبني ، براءتي أمام المحكمة جريمة أخرى تضاف الى كتابي الأسود ، تستطيع أن تنصرف ، أشكرك على هذا الاهتمام والحرص ، ولكن لن تستطيع أن تفعل شيئا ، لأني قررت أن أعترف بكل شيء ، وبدأت القابلة تسترجع الزمن ، تتكلم من عمق الذكريات ، تنفخ الروح في الحدث نفخا ، كأنها تقرأ تعليقا على فصل من فصول حياتها ، تبتسم أحيانا وتعبس أحيانا أخرى ، تجاري الفعل بالقول ، تروي تفاصيل الوقائع التي نخرت استقرار أسرة كانت آمنة مطمئنة ، تحاكي التفاصيل دون أسى ، تستعيدها كأنها حدثت بالأمس فقط ، بارعة كانت في السرد ، كأنها فوق خشبة المسرح ، تطارد الأفعال لترويضها في حلبة الزمن ، يتابع كريم حركاتها وسكناتها وتأثراتها بكل ما أوتي من ادراك ، كانت تركب الأفكار المتفككة على عامل الزمن ببساطة وسهولة لا تحتاج الى تبرير ، الحدث يبرر نفسه لو لم يكن آني وخلف كل هذا الدمار ، لكان جزءا كبيرا منه بديهيا ، واثقة مما تقول ، انه الواقع الذي لا يحتاج الى ديكور ، كانت تتكلم بمتعة ولذة تخترق ظن أي واحد يبحث عن الحقيقة ، وتروي الفضول ، أبهرته بهذا الصدق الذي لا تزعزعه الأراجيف ... هكذا يأتي دائما الاعتراف الأخير أمام الأمر الواقع ...
كريم: اني أعيش أحداث رواية درامية لا أعرف كيف تكون نهايتها ، كأني لست أنا
القابلة: والآن اتركني لمصيري ، أشكرك مرة أخرى على هذا الحرص ... أترك العدل يحل محله
كريم: أنا مطالب بمهمة سأقوم بها
القابلة: الاعتراف كما يقولون سيد الأدلة
كريم: رغم هذا سأقوم بواجبي
القابلة: أنت وشأنك ... انتهت الزيارة
كريم: أشكرك يا خالتي على هذا الاعتراف ، سألتمس لك التخفيف .. أتركك بخير ..
تحول كبير ، وموقف عظيم ، وحقيقة كالبدر في الصفاء ، ما كان يتوقع كل هذه النتائج وبهذه البساطة ، الاعتراف بهذه الطريقة نصف التوبة ، فهل يستمع القضاء لصرخة هذا الضمير ، لا أظن ذلك ، القانون لا يرحم ذبيحته لأنه ليس حادا ، أما القابلة حفتها السجينات ، يسألونها عن الجديد في قضيتها ، لقد استطاعت أن توظف تجربتها وتكسب قلوبهن بتفانيها في نصحهن وتوجيههن والحنو عليهن ، وفي ظرف قصير حولت هذه القاعة الى مدرسة للأخلاق الفاضلة ، للعبر والتحدي ، صنعت من انهزامهن قلاعا حصينة ضد الانحرافات ، ودرعا قوية لمقاومة جبروت المجتمع الذي لايرحم ، بذرت فيهن روح الأنوثة البريئة الصادقة التي تجعل من الضعف قوة ، تتحدى ألسنة الشر الملتهبة ، لا مساومة ، ولا خذلان ، ولتخرج كل واحدة منكن من هنا وهي تقول ها أنا ذي ، لن يرحمني أي واحد من اليوم بخطيئته .