بعد العهد النبوي بعدَّة عقود ظهرت طائفة عُرِفوا بـ(القُصَّاص) يعظون الناس , وكانوا يعتمدُون في غالب وعظهم على سرد العجيب من القصص وكانوا – أكثرهم - يتكذَّبون الحديث ويضعونه وينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم , ويضعون في كذبهم من الأعاجيب والغرائب ما يستهوون به العامَّة من النَّاس , والعوام بكل عجيب مغرمون , وبكل غريب مولعون , فمالوا إلى هؤلاء القصَّاص واعتبروهم (علماء) في شريعة الإسلام فكانوا يستفتونهم ويرجعون إليهم مع أنهم ليسوا من العلم في شيء , ومع هذا كان هؤلاء القُصَّاص يستنكفون من إظهار الجهل فيفتون بغير علم , ولهذا كره العلماء الأُصَلاءُ أكثر هؤلاء القصَّاص واتَّخذوا منهم موقفا حازما , غير أنهم لم يستطيعوا صرْفَ أنظارِ عامَّة الناس عن التعلُّق بهم , ولا استطاعوا أن يزحزحوا ثقتهم في هؤلاء القصَّاص إلاَّ قليلا , بل ابتُلي بعضهم بالجلوس إليهم اضطرارا , وممن ابتُلي بهم الإمامُ أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه – وهو إمام معروف وفقيه مشهور , أسَّس مذهبا دان به في الفقه كثير من المسلمين في مختلف بقاع الأرض , فكيف ابتلي الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه بالقصَّاص ؟
لنسمع من الإمام ان الجوزي القصة إذ يقول:
((كان في مسجد قاصٌّ يقال له زرعة , فأرادت أمُّ أبي حنيفة أن تستفتي في شيء فأفتاها أبو حنيفة ، فلم تقبل !!. وقالت : لا أقبل إلا ما يقول زرعةُ القاصُّ!!.
فجاء بها أبو حنيفة إلى زرعة فقال : هذه أمي ، تستفتيك في كذا وكذا .
فقال : أنت أعلم مني وأفقه . فأفتها أنت.
فقال أبو حنيفة : قد أفتيتُها بكذا وكذا .
فقال زرعة : القول كما قال أبو حنيفة ، فرضيت وانصرفت )). القصَّاص والمذكِّرين ص 319.
فسبحان الله .. كيف غالب أبو حنيفة رضي الله عنه نفسه وغلَبَها في الذهاب إلى الـ (قاص) ليستفتيَه لأمه .
وواعجبا للإمام إذ يسمع كلام أمه راضيا طائعا بارا منكسرا أمام رغبتها مع يقينه أنه أعلم من القاص وأفقه , ولكنها رغبة أمه .ولا بد من الطاعة .
ولم يخف أبو حنيفة – وهو ذو شهرة وعلم ومنزلة – من كلام الناس إذ يقولون أم أبي حنيفة لا تثق بعلمه , وأبو حنيفة العالم يستفتي القصاص , لقد علَّمنا الإمام أن رفعة المنزلة إنما تكون بالتواضع لرغبة الأم ما دامت هذه الرغبة ليست في معصية الله . فليس التنفُّخ بالدرجة العلمية والتشامخ بها على الأقربين والوالدين والناس أجمعين من شيم العاقلين و ولا هو من خلق الصالحين .رحم الله الإمام أبا حنيفة رحمة واسعة .
المفضلات