الفـتـيـل
مضت تقطع تذكرتين، بينما بقي يمتص سيجارته بنهم تعودته شفتاه وضاقت به رئتاه. عادت، مدت له يدها بتذكرة، تعمّد لمس أصابعها، ولما نظرت له شبه مستنكرة ابتسم وغمز بعينه فأشرق وجهها بضحكة طالما أرّقته.
كاد يسرح لو لم يأت المترو، دفا إلى داخله مع زمرة الداخلين، أخذا مقعدين، جلست قبالته وقالت:" لم أنت صامت؟ هل ندمت على قبول دعوتي؟
تلعثم وقال كلمات فهمت منا أنه لم يندم... كيف يمكنه أن يندم على عرض لم يحلم به!؟
كان قانعا بالحديث معها في مشرب الجامعة كبقية الزملاء والجلوس بجانبها في المدرج، وكانت في بادئ الأمر لا تعيره أدنى اهتمام، وكان منذ البدء يعيرها كل اهتمامه...
هل يمكن أن يعشق؟ هل يفكر أن يتخلى عن حلقات النقاش والاجتماعات العامة ليبقى معها ويكتفي بالاستماع لها وهي تتحدث عن نجوم السينما والفن التشكيلي؟...
ثم بدأ يشعرها بوجوده، حين يتحدث عن الشعراء أو السينما الواقعية والجامعة التونسية للسينمائيين الهواة ونضالها من أجل سينما وطنية ليست معدّة سلفا للمشاهد الغربي الذي يبحث عن الصورة المتحفية للشرقي. ثم بدأت توجه له الخطاب وتسأله في الشعر والسياسة والدراسة، وكان يجيب فيفيض، وكان يحس نشوة لا تضاهى حين يرى ابتسامة الشكر على وجهها.
يوم تدخل في المدرج ليعقّب على كلام المحاضر عن فلسفة القانون والدولة، إنها أول مرة يناقش أستاذا في الجامعة، تحدّث عن القانون وعلاقته بالتطور الاقتصادي ودوره في تقنين علاقات الإنتاج ودوره في تطوير المجتمعات، وموقعه من البنية الفوقية، حينما انتهى كان جسمه ينتفض ولما رأى ابتسامة الدكتور اللغماني التشجيعية وسمع غمغمات الزملاء تدل على الرضا، التفت إليها وجدها ترمقه بنظرة إعجاب وضغطت على يده قائلة "أنت رائع".
يومها سلّم على حارس المبيت بصوت عال وصعد الطوابق الثلاثة وهو يردّد:
أولى بهذا القلب أن يخفق وفي ضرام الحب أن يحرق
ما أضيع اليوم الذي مرّ بي من غير أن أهوى وأن أعشق
قال له فيصل رفيق الغرفة حينما لاحظ نشوته: "لقد رأيتك معها هذا الصباح "... لم يتركه يكمل واحتضنه ودعاه لتناول الغداء قائلا: " فلنأكل اليوم في مطعم خاص وسأدفع الثمن."
توقّف المترو، همّ بالنهوض ولكنها قالت: "ننزل في المحطة" ثم أردفت:" لم أرد أن أقتحم العالم الذي صنعته لنفسك، لقد لاحظت ابتسامتك وأنت شارد الذهن، فيم كنت تفكر؟ " وانفلتت منه:"كنت أفكر فيك". ثم صمت وكأنه ندم على قوله. أعجبتها صراحته التي لم تعتدها في مثل هذه المواقف. لقد تعوّدت عليه خطيبا في كل المواضيع إلا حين يتعلق الأمر بأحاسيسه الخاصة أو حين ينفردان في مكان ما.
لم يتكلم قط عن قصص حبّه الطفولية كما فعلت هي. كان يكتفي بالابتسام ورسم علامات التعجب على قسماته...
لم تكن تدري أنها ستتعلق به هذا الفتى القادم من بين البحر والبرج. كانت تَعجَب من حرصه على النقاش رغم لجلجته، ومن فصاحته وقدرته على الحجاج. كانت ترجع تواجدهما في مكان واحد للصدفة أو لضيق الكلية أو للصداقات المشتركة... ثم أصبحت تفكر به في خلوتها، تستعيد كلماته وتتخيل الحول الذي يبدو في عينيه حينما يلتفت إليها وابتسامته الدافئة وجسمه النحيل المتناسق، أنفه كبير بعض الشيء لكنه وسيم على كل حال.
تساءلت عن إمكانية التلاقي وانتظرت بصبر أن يمعن في الاستبداد بعالمها وباحتوائها، فكان بطيئا مترددا، فأحرقت كل المراحل ودعته للذهاب إلى المركز الثقافي الجامعي. أحست بنشوة الانتصار حين رأت ارتباكه وقال:" نعم. فلنذهب. متى نلتقي؟ في العاشرة؟ إلى اللقاء.". عندها فكرت بطريقته وقالت لنفسها:" تخيلي ثورة اشتراكية في مجتمع إقطاعي"! أعجبتها المقارنة، ابتسمت بإعجاب وأشعلت سيجارة.
حين رأى ابتسامتها، مزّق الصمت قائلا:" هل تعلمين أنها أول مرّة أخرج مع زميلة من الكلية، وقد كنت أنت الداعية لا أنا". قالت:" وهل هناك فرق؟ ألست تقدميا وتدعو إلى المساواة الفعلية بين المرأة والرجل." تعجب من تغير أسلوب خطابها فهو لم يتعود سماع هذه المصطلحات تخرج من فمها. انتهز الفرصة ليدعم تقدميته وتحدث بإسهاب عن دور المنظمات النّسوية في تفريق دور المناضلين على درب الحرية والانعتاق، وتكلم عن نادي الطالبات في الكلية وعن أساليبهن اللبرالية في التصرف. ولم يوقفه عن الحديث إلا محطة برشلونة. أحست أنها بدأت تكره الخوض في هذه المواضيع، إنها تحس بالغيرة منها، إنها تشغله عن الحديث في الحب والشهوة والأحاسيس ولهيب الغرائز... حين يتحدث عن الكبت الجنسي أو الفرويدية فكأن المسألة لا تعنيه...
ألا يحس بتوهج أنوثتها وباستدارة نهديها وطعم الكرز على شفتيها! تنهدت وسبقته إلى باب الخروج.
نزل سار إلى جانبها وضعت يدها في يده أحس فتيلا يشتعل في أصابعه، لكنه فتيل من عسل ناري شبّ في كل جسمه. زاد التصاقا بها، لم يشعل سيجارة كان في أمسّ الحاجة إليها لأنه سيضطر إلى سحب يده. لم يهتم بالصخب في الشارع ولا بالسائحين العجوزين الذين ابتسما لهما. كان يفكر بكل شيء وباللاشيء، وكانت تملأ بالمكان عينيها وبدخان السيارات والمارة وبالعصافير المحلقة إلى جانبها في السّماء السّابعة...
وصلا إلى المركز الثقافي، طلبا قهوتين، قدّم لها سيجارة وهما يتجهان نحو مقعد حجري منزو في ركن تغمره شجرة وتحيط به بضع زهرات... جلسا صامتين ينفثان دخان السجائر... ابتسمت فجأة في نزق وقالت: هل جرّبت الجنس؟ رجّه السؤال. رمت به في وجهه كإناء ماء بارد. أجاب بسرعة:" اجل حينما كنت صبيّا مع طفلات الحي." فرنّت ضحكتها في صمت المكان. حدجها بنظرة عتاب فقالت وهي تنهي ضحكتها بارتشاف القهوة:
" لم تضحكني الحقيقة بقدر ما أضحكني تقديمك إياها عارية دون... أقصد أني لم أتعوّد سماع مثل هذه الاعترافات... خاصة" ... لأول مرة لم يرد أن يفلسف الحديث فقال وهو ينظر في كأسه:" بكل بساطة لا شيء، لم تطاوعني نفسي على ممارسة الجنس الرخيص، ولم أجد من تتلاءم معي".
ونظر إليها مبتسما كأنه يقول أما الآن فقد تغيّر كل شيء!!!
لفّهما صمت لذيذ يوحي بقرب الغيث واندلاع الربيع... يلمح عليها مسحة حياء لم يتعود عليها... لمَ غابت كل الكلمات؟ لم تجد ما تقول، لقد تعوّدت أن تمارس الحب دون أن تعقلنه، تعوّدت أن تقوله بيديها وشفتيها وأنوثتها الصارخة في النهود وفي كل مسام جلدها الذي ينضح شهوة. وتعوّد أن يخفي شهوته بالكلام عن المجتمع والمسكوت عنه في الثقافة وعن العقد النفسية... وبرقت في ذهنه قولة لم يعد يذكر أين قراها " ولا يتناسى الجسد رجل إلا أكلته الخيالات".
ربما تشتهيه كما يشتهيها قمرا طالعا من تحت الأزرار!!!
أخذ يدها دون أن يفكّر، طبع عليها قبلة...
لم يرد الاكتفاء بذلك ولكن هل يمكن أن يخرق كل شيء القناعات والأحلام وقهر المجتمع؟
لم ينتبها للسائحين العجوزين ويبتسمان لشفاه تلتحم، ولعسل ناري يسيل بينهما...
المفضلات