هل تدرون من هم العصافير؟!
لا أحب الحديث عن العصافير وتجربتي معهم في سجون الاحتلال الصهيوني، لأن ذلك يثير أحزاني وكآبتي وابتئاسي، ويذكرني بماض أليم وخيانة يقترفها أبناء شعبي وديني... هذه الخيانة موجودة مع الأسف الشديد داخل السجون الصهيونية وخارجها في السجن الكبير الذي يعيش فيه أهل غزة والسجن الآخر المفتوح الذي يعيش فيه أهل الضفة، ولهذا وجدت نفسي مدفوعا للكتابة ولو بشكل مقتضب جدا حول هذا الموضوع.
ارتبط مصطلح "العصافير" بالسجون الصهيونية التي تضم بين جنبات أقبيتها المظلمة المجاهدين والمناضلين. والعصافير هم فلسطينيون يستخدمهم المحققون الصهاينة وأجهزة الاستخارات الصهيونية في التجسس على الأسرى وانتزاع المعلومات الأمنية منهم بشتى وسائل الخيانة. وموضوع العصافير معقد ومتشعب، يصعب تناوله في عدد محدود من المواضيع، ولهذا فسأتعرض إلى جانب صغير - ولكنه كبير في معناه - من هذا الموضوع له علاقة بالخيانة التي أنهكت الشعب الفلسطيني، وكبدته خسائر فادحة، وأزهقت أرواح آلاف المجاهدين من أبناء الشعب الفلسطيني...
عندما يعجز المحققون الصهاينة عن انتزاع المعلومات الأمنية من الأسرى الأبطال أو يطمعون في الحصول على مزيد من التفاصيل حول اعترافات الأسرى تحت التعذيب، فإنهم يستخدمون عصافيرهم، الذين عادة يتواجدون في غرف خاصة بهم في أجنحة خاصة بهم معزولة تماما عن باقي أجنحة السجن. يأمر المحققون الصهاينة شرطة السجن بأخذ الأسرى من الزنازين إلى تلك الغرف، بعد الإيحاء لهم بأن عملية التحقيق معهم قد انتهت وأنهم سيذهبون إلى السجن لانتظار المحاكمة.
وعندما يدخل الأسرى لغرف العصافير يشعرون فعلا بأنهم قدر خرجوا من مرحلة التحقيق في الزنازين إلى مرحلة التوقيف بانتظار المحاكمة، ويؤكد هذا الشعور الجو الروحاني النضالي الوطني الذي يضفيه العصافير على المكان عند استقالهم للأسير المغلوب على أمره، فيشعر الأسير بأنه بين إخوانه ورفقائه وأسرى آخرون لهم باع طويل في الجهاد والنضال.
وبعد أن يأخذ العصافير من الأسير معلومات أولية عن التنظيم الذي ينتمي إليه، ينهال العصافير على الأسير بالمديح والشكر والثناء، ويتوددون إليه بكل الطرق، ويظهرون له حفاوة وتكريما هو في أمس الحاجة إليهما، وفي أحيان كثيرة يبكي الأسير من شدة الفرحة والشعور بالاطمئنان، وعند هذه النقطة تبدأ العصافير في انتزاع المعلومات من الأسير دون أي عناء. وفي حالة أخرى، يتعرض الأسير للتهديد والتحقيق من قبل العصافير الذين يتعاملون مع الأسير على أنهم قادة الجهاد والنضال وأنه مشبوه أمنيا.
ذكرتني خيانة امرأة بالعصافير، الذين وضعني المحققون الصهاينة في غرفتهم لاستجوابي وخيانتي، خاصة أنهم كلهم جميعا - وعددهم خمسة - من البلد ذاته الذي تقيم فيها تلك المرأة. كان كبير العصافير الخمسة في الخمسين من عمره، ويبدو عليه الوقار والسكينة، وحكى لي قصصا تثير معاني النخوة والعزة والبطولة عن صموده وصمود زملائه، الذين كانت أعمارهم تتراوح بين العشرين والثلاثين، حتى اطمأننت إليه وأجبت على أسئلته إجابة لم تحقق للمحققين الصهاينة ما كانوا يطمعون فيه... وما هي إلا لحظات قليلة بعد الإجابة على أسئلة العصافير حتى جاءت الشرطة لتعيدني إلى التحقيق، عندها عرفت أنني وقعت في الخيانة، لكن الله عز وجل سلم. وقضيت 85 يوما في الزنازين، وكانت 56 يوما من هذه الأيام في زنزانة واحدة، ثم خرجت حرا طليقا بعد ذلك.
هذه الخيانة تتكرر اليوم في كل مكان وزمان، إذ لم تعد الخيانة تقتصر على الزنازين وغرف العصافير، بل لم لم تعد الخيانة حكرا على العملاء والعصافير، فهناك من يرتكب الخيانة باسم الوطنية والدين ودعم المقاومة. لقد فقد الناس إنسانيتهم وطهرهم، وصاروا كالوحوش في إخلاقهم وتصرفاتهم الهوجاء، وانزلقوا إلى الحضيض في قيمهم ومبادئهم، وراحوا يبررون ذبح الناس والاعتداء عليهم بأتفه الأعذار، واتبعوا منهج "الغاية تبرر الوسيلة"، وأحاطوا خيانتهم بهالة وطنية ودينية...
لقد ذكرتني تلك المرأة بعصافير الزنازين وخيانتهم لي، فأصل الخيانة واحد مهما تغيرت أشكالها وتعددت مبرراتها... أصل الخيانة هو "الخيانة" لله ولرسوله وللمؤمنين والناس أجمعين.
تحية مؤلمة!
المفضلات