" عـُــرس الشّيطـــان ... "
القاصّ : سعدي صبّـاح
أمــواج عارمة من البشـــر قــد عُجّــــت بها ســاحة الحـــدود، رجال،نساء وفتيـات في عمــر الزُّهور من أجل العُـبور إلــــى الضفّة الأخرى لحضور عرس الشيطــان الذي أقرّته الرّعـــايـا ليلة العام الجديد ولأنّني أفهم معنى"كُح" دخلت وجدة دون انتظار ! كسّرت قسطـا من العيـاء واتجهت صــوب الناظور،أجتـــاز المنعرجات في حذر،وقد لاح لي الثلاثي المقدس: الله،الوطن،الملك،فبكيت بحسرة على المآسي التي تمرّ بها البلاد !ونزلت إفران في ساعة مُتأخّرة من نهار لآخر سنة لن تعود،كُلّ شيء هناك يعبق بعطر العام الجـــديد ! ومهاء تلك الفتاة التي عهدتها تسهـر لفرح الغرباء..وقـــد توشّحت هذه الليلــة بوشاح مغربي أصيــــل !..أســدلت ظفائرا مجنونة وقد عبّقتها بشبق النسرين ! ناولتني شايــــا مغربيا ينــام فيه النعناع ! وجلست باسمة: "كيف حال الغزوات؟"،نبتت أجنحتي.. تذكّرت رجـــالا دفعوا النجيع مقابل كرامتي ! ارتجّت كالأرنــب البريّــــة فتضـــــــوّع عطر رقصت له أوردتي ! : " يُعجبني فيك التحدّي والسّفر تـــحت الصّقيــــع،...قلت:"أنا يا مهـــاء أعشق السفــر وأتخيّل البشر طيورا مُهاجرة وقــد زُرت أقطارا أُخرى...أبحث عن لحظة نـــوم على النُوّار لأنّني كرهت الزحف على أشواك القندول ! "،وحدّثتني مهاء عن بعض المحطّات من حياتها...عن دراستها وعن أشياء أُخرى ...، وكان الحديث معها كالحديث مع السّنابل حين تشرب المطر ! لولا ما عرّجت على مزنة الدّم التي سافرت مـــن القنيطــرة لتبلّل أرض بونـة الطّاهــرة.. ونامت نومة اللحود وهيّجت دموع الثكالى من جديد ! لم تكـن تعني وأمسكتنــي من يــــدي.. أصعدتني وأعطتــني الغرفة التي أُريد ولـــون الشفق يطفو علـى خــدّ المهاء ! لويت هيكلي المتعب على سريري بجزمتي المُعفّرة بوحــل البلـــد،لأنسى ولو لحظات غرفة هجرتها العصافير منذ دخلتها عابسة النظر...تُــــــريد سحــق أحلام رجل أتتـــه بالإكراه ! إلى أن أيقظتـــني حبّات المطر وهي تصفـــع بلور النافذة...تعزف لحنا جميلا زاد من نكهة المساء وكنت منتشيا كأطيـــــــار الرّبيـــع... تمـــزّقـت أتعابي واندثرت كسحابة تلاشت قطرات...قطرات لتُشاطر الناظور عُرسها بليلة العام الجديد...تمنّيت حالمة تُشاطرني غبطتي...تملأني بأنفاسها..أنسى مُتسلّطة تغــــرق في بحر التوابل...تغضب كلّما أتيتها مُحمّلا بالــــــورد والعطور ! وقبل أن ترميــنــي أمواجها العاتية انتشلتني مهاء تطلبني للنزول..تعطّرت وغيّرت ملابسي ونزلت مـــع انقطاع الزخّات،لقد ســـافر المطر وحطّـــت أسراب الجميلات ! ينصبن الشبابيــــك على آخــرها...كُلّ ساحــرة تُسطّر ليلتها...تتمنّى وتتمنّـــــى... بلا حُــــــدود..دنوت لأصغو إلى وشوشات زادت عن حدّها ! لم أنوِ شيئا غير أنّني أرغب في ســـــرقة أُسطوانة لم تتردّد على مسمعي ! قالت:"البارحة استرخيت على سريــري رأيـــــت جسدي في المرآة... ! وارتجفت كحجلة مغمغ فرخها... اللعنة على مايوهات قصر الحمراء... ! أُخرى: "بتّ مع صديقتي على سرير وسبحنا في بحر الأرق...ناولتها مرهمي وسرحت في المسد على ظهري...فارتعدت جوارحي...وتشعل أخرى سيجارة غير بريئة:"سهرت ليلة البارحة على مشاهد شبه عارية بثتها إحدى فضائيات الغرب...هاجت هائجتي...توهّمته نمرا بات على الطّوى...يرتمي على جسدي الناحل ! ...يُسمعني قرقعة عظامي ولا يرأف بي ! ...،لا أدري كيف أحسست بعفّتي تُطعن في العمق ! ثارت زوبعتي تحت سماء ماطر هجرته النجوم...،ورُحت أُمرّر نظري بين المُروج،فاستوقفتني شاردة تنطوي بالمنار،عار أن تشغلها مجلّة في ليلة تهجرها ملائكة الرّحمان ! ...همست لمهاء لأعرف سرّ المنار...وهي تُجالس وحدتها وتُذكّر بالحريم فأنبأتني بأنّها غريبة وحديثة العهد بالمكان وأنّها غارقة في خجلها...وهرعت دون إذن وأتت بها في الحال ! أجلستها إلى جانبي وغادرت في لمح البصر !...طلبت لها شايا وفتحت نوافذ قلبي حدّثتها عن أسفاري...عن طموحاتي وأحلامي دون سابق معرفة مُحاولا طرد خجلها فانشرحت: "أنا أُقدّس الرّجل العفوي الذي يمقت الأقنعة...ولم أُخطّط لأحد في حياتي...أُحبّ الهزل في كثير من الأُمور ! وروت لي عن حياتها في فاس وعن حُبّها للشعر..وكتابات خناثة بنّونة...قصّتها مع الورد..حُبّها لوردة الجزائريّة لأنّها غنّت للحب وللوطن...وعن الذي ابتلعته مكناس بحُجّة محاربة الفقر وطلّقها إلى حين !...قرأت على مُحيّاك الطُمأنينة والأمل...أمنحك أوردتي وبقايا هذا الجمال !،قُلت في نجواي سأتخلّص هذه الليلة من هموم ومآسي سنة ابتلعت فيها خنجرا بدمّه جنب كتلة تخلو من المشاعر ! وانتشلت بقايا الشاي سكبته في جوفي وانقشع السّديم وحلّقت عصافير الرّغبة بيننا،فطلبت رحلة خارج الناظور،لم أُمانع وصفّقت جوانحي...لوت بسرعة البرق إلى غرفتها..لبست فستانها الأُرجواني...تكحّلت وتعطّرت...سبقها عطرها إلى السيّارة،أوهمتني وهي تضع يدها على قفل الباب ! جلست بجانبي وانسابت السيّارة تُكسّر الظلام غير مُكترثين بالسّكارى أو المُتشرّدين ! سكبت قارورات العطر بأكملها ! وانقلبت إلى طفل مُشاغب ! تمنّيت لحظتها لو يراني اللدات الذين استبدلوا حُرّياتهم وحتّى رجولتهم مقابل بقايا خبزة مُخضّبة بالطباشير الحمراء أو شقّ كرسي مُتآكل يحجب ملامح الهيبة والوقار أمام أُناس يرمونهم بالبلادة وينظرونهم بقزم ! وأن لا يرحل الليل حتّى لا أعيش لوعة الفراق وطلبت الشاردة عدم اللارُجوع إلى مقاهي تحوّلت إلى مراقص ليلة عرس الشيطان ! وعادت الغيمة وبدأت حبّاتها تصفع بلّور سيّارتي وحرارة الشوفاج أعلنت بالرّبيع داخل سيّارة تتحدّى الوهاد...طلبت منّي فتح النّوافذ لتدخل الزخّات وتُشاطرنا عرسنا بليلة من أغلى الليالي ! وتوقّفنا عند محل "تازا" للروحيّات أعطيتها ثلاثين درهما وقد شعرت اللحظة أنّها ملكة والباقيات جوارِ ! انحدرت تتخطّر أيقظت ربـيع بائع شيّد القصور من عناقيد العنب ! وعادت مُعبّأة بالمحظور...أحسست أنّها تُجاملني وتُبالغ في خدمتي...لكن لا يهمّني إن كان تقديرا لي أم لسيّارتي ودراهمي ! وانعطف اللعين بنا إلى أطراف الخطيئة ! ..تجرّعت قطرات عاتقة غيّرت صوتها...لا معنى للباس داخل سيّارة تردع شرّ البرد ! ...لقد تأكدت أنّ العصير يُسلبني القدرة على جسدي...وراحت أنامل مُزركشة تغازل الأزرار ! ...وسرى صوت خليفي أحمد (والباقي معلوم يظهر في الرقدة ذهب أمخبّي نذكروا غير الظاهر) وتلعثم لسان روّضته الرّغاوي...
الليلة ضيّعت مفاتيح جوهرتي...أتنازل عن اللآلئ قُربانا لرضاك...خدّرتها الزخّات فخدّرتني بخمرها ولاحت الأنجم في السّماء بعد ليلة ماطرة،فألثمتني الشّاردة وأطفأت جذوتي المُتأجّجة...ذابت سبائخ القحط الجاثمة على صدري وجمّت أعشاب الرّبيع...انبطحت على بساطها وراحت بشراهة تأكل فاكهتي وتُعربد على أطلال شاعر دمّرت أحلامه إمرأة قضت على وسامته...زرعت على رأسه حقلا من الثلج يُرعب حُرّات بلده ! ...لقد وجدت ضالّتي مع زهرة شبقيّة ظامئة سرقت منها العطر وحفيف الأفاعي ...وانتحلت شخص أبي نوّاس عُنوة جنب جنيّة جاءت لتحضر عرس الشيطان..وانقلبت إلى أفعى اتّخذت مقاعد سيّارتي جُحرا للفحيح ! ...ولم يكن هذا نقطة اللقاء وإنّما عبثت بنا ليلة العام الجديد !...دثاري البالي يشهد على رعشتها وبُردتها المُبلّلة...والدبابيس المتناثرة وهي كحيّة تتلوّى بوهاد الناظور حتّى انبلاج فجر جديد حيث عُدنا إلى إفران مع صباح أنجبته ليلة أخفت الكثير من عبثنا ... تمرّدنا ومن خطايانا ... ! وقبل الرّحيل أعطتني زهورا مُحبّكة..ودّعتها وودّعت مهاء وعُدت إلى وجدة برأس يعجّ بليلة هيّجت مهجتي...أحيتها كما تحيا البلابل حين يعبث الرّبيع ! ...كُلّ شيء يسكنني عطرها..صوتها..ضحكتها وطيفها الذي يملأ مرآة سيّارتي،مكثت بوجدة ليالي مُنتشيا بذكرى نجمة أبت الأُفول في ليلة ماطرة ،وفي آخر يوم من عطلتي دخلت الحدود مُعبّئا بالأقمصة وملابس النّساء ولمّا انحدرت وذبت في زحمة العائدين قابلتني بطلة قصّتي بمعطفها البنفسجي تضحك مع أُخريات حدّ القهقهة..يُقشّرن الجوز في انتظار ختم الجوازات فجمّت هلوستي وأحسست بالانهيار دنوت ببلادة: "أهلا بفاس" فردّت تتحدّى الحرج: "أنا من بلعبّاس ولســتُ من فــــاس.. !
القاصّ : سعدي صبّاح / الجزائر
sebbah@maktoob.coml انتهــــى ...
المفضلات