آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: تكوين (3)

  1. #1
    كاتب وأديب الصورة الرمزية محمد صباح الحواصلي
    تاريخ التسجيل
    27/09/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    132
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي تكوين (3)

    تكوين (3)

    محمد صباح الحواصلي


    التيه

    لم تستطع أن تقاوم رغبة الخروج من البيت.


    كانت الرغبة تعصف بنفسك وتزين لك الدنيا خارج البيت, وتحشد الصور السندبادية المليئة بالعجائب والمفاتن. إنها رغبتك بأن تثري عالمك الصغير بعدما أضحتْ شرفة البيت عاجزة عن إثارتك.

    ألم تتسلق ذات يوم السلم الخشبي الذي يركن في فناء البيت لتشرف على آفاق بعيدة فاتنة وأشجار كثيفة وجبل تنتهي إليه تلك البيوت المتعانقة, وتجد أن العالم أكبر بكثير مما كنت تتصور.

    هاأنتَ الآن تطل برأسك من خلف الباب, فتناسم نفسك رغبة بأن تخرج وتسير. وتلقى عالما يبهرك, يثير مكامن الفضول في أعماقك, يحطم إسار مرحلة طفولية آن رحيلها.

    لو تدري كم أنتَ بحاجة إلى هذه التجربة التي لا تخلو من خطر.. إلى أن تدع ساقيك تسيران على غير هدى, وتتيه في دنيا الله الواسعة. في البداية ستكون مغمورا بنشوة الاكتشاف, لا تدري أين تقودك قدماك, ولكن عندما تتكرر الأشياء من حولك وتفقد بريق الاكتشاف وينتابك التعب فإن مكامن الفضول ستطفو من أعماقك جوفاء, حينها ستدرك أنك أمسيت بعيدا عن البيت, عن المكان الأليف الذي يغدو العالم من دونه موحشا.

    هاأنت تفعلها, تنطلق في شيء من الحذر وكثير من الجرأة. تنظر إلى هذا العالم الكبير من حولك الذي ستنفضُ بعد اليوم الكثيرَ من غموضه. إنه أكبر بكثير مما كنت تتصور, وكلما سرتَ فأنت ملاق ما يذهلك.. الطرقات والعربات وبائعي الحلوى.
    ما ألذ هذه الأطعمة. وهذا الحمار الذي يحمل أثقاله ما أتعسه.. تجري خلفه فينهرك ممتطيه. لا عليك.. هم دائما هكذا مع الصغار.

    الآن يتعين عليك أن تغير طريقك لأنه ينتهي بك إلى حقول موحلة في هذا الفصل من السنة. سر في ذاك الطريق فإنه مفض بك إلى ما سيكون قمة اكتشافك اليوم. إنه نهر (العاصي) الذي طالما رسمته بأقلام التلوين الخشبية. كنتَ تُجري مياهه الزرقاء في منتصف اللوحة ثم تغيبه وراء ذينك الجبلين الهرمين اللذين تطل من بينهما الشمس الذهبية. ومن اليوم فصاعدا سوف ترسم النهرَ برؤية جديدة, بألوان جديدة. سوف تراه وتحبه وتقف أمامه طويلا ترقبُ بكثير من الدهشة واللذة مياهه المنسابة بوقار ورهبة.

    تضع يديك في جيبي سروالك وقدماك تسيران على غير هدى على طول ذاك الطريق الذي يفضي إلى النهر. لقد اختفت الدكاكين من حولك الآن ولم يعد الطريق مزدحما كما كان في بدايته, وثمة ما هو جديد تلقاه عيناك. إنه المدى الواسع الثري بمعالمه الضخمة. الجبل والغيوم والأشجار والنهر الذي ستلقاه بعد قليل. تلذك نسمة منعشة تلامس بشرتك الرقيقة وتداعب خصلات شعرك السوداء الناعمة. وها أنت بدأت تدرك بأن غياب الزحمة والضجيج وحلول الهدوء والخضرة معناه أنك جعلت تغوص أكثر فأكثر في مشارف المدينة. ولكن ما هذا الصوت الذي يتناهى إليك من بعيد؟ يريبك أنه يشبه صوت خوار بقرة. ها قد بدأت تدرك أنك خرجت بعيدا عن عالمك الأليف, تلتفت إلى الخلف.. إلى الدرب الذي قطعت.. فلا تجد إلا الصمت وذاك الخوار الذي ينسل من أعماق البعد ليفترس مسامعك.

    تقاوم رغبة البكاء. رغبة لا تقل وطأة عن رغبتك في الخروج من البيت. فلقد أدركت لتوك أنك قد تهت, وما وراء التيه إلا كل ما في المخيلة من صور الخوف.

    تسير.. ولكنك هذه المرة لا تأبه للاكتشاف. لا تريد أن تكتشف شيئا الآن. كل ما تريده هو أن تعود إلى البيت, إلى أمك وأخوتك وشرفتك الأليفة.

    يقترب صوت الخوار أكثر فأكثر إلى أن تجد نفسك أمام نواعير ضخمة عتيقة تدور ببطء وترفع المياه. هو ذا نهر (العاصي). ألا تقترب منه؟ أترى كم هو مذهل وبديع؟ آه.. لو لم تكن مغمورا بشعور التيه والخوف من ألا تعود إلى بيتك وأمك وعالمك الأليف لكانت رؤيتك أكثر روعة عما تراه الآن.

    لقد انقضى ذلك النهار, وانتهت التجربة, وهاهي ذي يد حنونة من ذاك العالم الأليف تقبض على يدك وتعود بك إلى البيت.

    فرحتَ لعودتك للبيت وفرح الجميع. ولأول مرة تلمح في عيني أمك الدامعتين نظرة لم تألفها من قبل.. نظرة غريبة هي مزيج من الفرح العظيم واللوم. لهذا السبب كانت تضربك وهي تبكي.

    تلوين


    قاسية يدكَ على الألوان الخشبية. لا تضغط على القلم وأنتَ ترسم. بودي لو كنتَ تفهمني. أعطِ الألوانَ دفقا من روحك.

    ثم ما بال ألوانكَ هذا اليوم قاتمة وكأنها تقتصّ من الطبيعة الجميلة؟ لقد جعلت من انسياب نهر (العاصي) وسط الخضرة لسانا من لهيب أحمر. أما تلك النواعير العتيقة فتبدو وكأنها كرات نارية تقتات من أتون النهر الملتهب. ثم أين الضفة الخضراء؟ متى كان الأخضر رماديا؟ ومتى كانت الأشجار أعمدة سوداء تنتصب عارية لا أثر لحياة فيها؟ ثم ما هذه النقاط البيضاء التي تغطي السماء.

    أنا على يقين من أنك قلتَ ما تشاء في هذه اللوحة التي يحلو لك أن تسميها (التيه). وعلى الرغم من أنكَ تكره ما جنت يدك فانكَ كنت أمينا مع ذلك المنظر الأليف. هكذا رأيته, هكذا عاد من أعماقك لتبعثه من جديد على تلك الصفحة البيضاء.

    *
    الصلاة

    مألوفة تلك الحركات الخاشعة التي يقوم بها أبوك أكثر من مرة في اليوم. إنها الآن تثير تساؤلاتك.
    "ماذا تعني الصلاة يا أبي؟"
    "الصلاة شكر لله على نعمه.."

    وحدثك أبوك عن معنى الصلاة. كان بارعا في تقريب معناها إلى مداركك. بيد أن مجمل ما قاله كان ما يزال يشوبه الكثير من الغموض. لكن ما ألذ ذلك الغموض الذي ينساب في النفس نشوان رطباً.

    كل ما في صلاة أبيك يبهج النفس. امتثال لم تعهده منه في أي وقت من أوقات النهار.. وفيها معان غامضة وضعتك أمام تساؤلات شرعت في البحث عن معانيها.

    كم ستكون شاقة تلك الرحلة على سني حياتك. أنت الآن تخطو الخطوة الأولى ولا مهرب من ركوبك أمواج الشك واليقين إلى أن ينتهي دربك في هذه الحياة.

    المهم الآن أنك حريص على أن تغتسل كما يفعل أبوك. هذا الاغتسال اسمه "الوضوء". ثم تقف إلى جانبه وترفع يديك إلى أذنيك. يكبر أبوك بصوت مفعم بالخشوع:
    "الله أكبر.."
    وتردد خلفه بصوتك النحيل:
    "الله أكبر.."

    *


  2. #2
    أستاذ
    تاريخ التسجيل
    25/11/2006
    المشاركات
    143
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    " .. في البداية ستكون مغمورا بنشوة الاكتشاف , لا تدري أين تقودك قدماك , ولكن عندما تتكرر الأشياء من حولك وتفقد بريق الاكتشاف وينتابك التعب فإن مكامن الفضول ستطفو من أعماقك جوفاء , حينها ستدرك أنك أمسيت بعيدا عن البيت , عن المكان الأليف الذي يغدو العالم من دونه موحشا ... "
    أستاذي الفاضل محمد الحواصلي حفظه الله
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
    فهذه حصة ثالثة في فصلك الدراسي الممتع ..بغض النظر عن موقع البيت ..
    تقبل خالص تقديري واحترامي ..


  3. #3
    كاتب وأديب الصورة الرمزية محمد صباح الحواصلي
    تاريخ التسجيل
    27/09/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    132
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد ربيع مشاهدة المشاركة
    " .. في البداية ستكون مغمورا بنشوة الاكتشاف , لا تدري أين تقودك قدماك , ولكن عندما تتكرر الأشياء من حولك وتفقد بريق الاكتشاف وينتابك التعب فإن مكامن الفضول ستطفو من أعماقك جوفاء , حينها ستدرك أنك أمسيت بعيدا عن البيت , عن المكان الأليف الذي يغدو العالم من دونه موحشا ... "
    أستاذي الفاضل محمد الحواصلي حفظه الله
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
    فهذه حصة ثالثة في فصلك الدراسي الممتع ..بغض النظر عن موقع البيت ..
    تقبل خالص تقديري واحترامي ..
    أشكرك, أستاذ محمد, على وقوفك الجميل أمام تكويناتي.. وأنا دائما في انتظار المزيد من كتاباتك الرائعة.
    على أمل التواصل الدائم وكل عام وأنت بخير
    المحب
    محمد صباح الحواصلي


  4. #4
    عـضــو الصورة الرمزية اشرف الخريبي
    تاريخ التسجيل
    27/10/2006
    المشاركات
    220
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    انتهيت بالأمس من دراسة نقدية لكتابك الذى وصلنى أخيرا
    منمنمات على جدران دمشق القديمة
    اتمنى ان اكون قد وفقت
    مع خالص محبتى بعيد سعيد لك وللأسرة الكريمة
    وكل عام وانتم بخير
    أريد مجموعات التكوينات كاملة

    اشرف الخريبي


  5. #5
    كاتب وأديب الصورة الرمزية محمد صباح الحواصلي
    تاريخ التسجيل
    27/09/2006
    العمر
    74
    المشاركات
    132
    معدل تقييم المستوى
    18

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة اشرف الخريبي مشاهدة المشاركة
    انتهيت بالأمس من دراسة نقدية لكتابك الذى وصلنى أخيرا
    منمنمات على جدران دمشق القديمة
    اتمنى ان اكون قد وفقت
    مع خالص محبتى بعيد سعيد لك وللأسرة الكريمة
    وكل عام وانتم بخير
    أريد مجموعات التكوينات كاملة

    اشرف الخريبي
    أشكرك صديقي أشرف على أهتمامك. دراستك لمجموعتي المنمنمات أمر أسعدني غاية السعادة. وسوف ارسل لك التكوينات كاملة في القريب. وأنا آسف لتأخري في الرد لظروف صحية.
    وكل عام وأنت وأسرتك الكريمة بألف خير
    أخوك
    محمد صباح الحواصلي


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •