فرص الديمقراطية في مصر(2):
تعددية حزبية ضمن أطر شمولية
الدكتور لؤي عبد الباقي
لا شك أن حرية واستقلالية الأحزاب السياسية، والإجراءات والقوانين التي تنظم عملها وتدير العملية الانتخابية، تقدم صورة واضحة لواقع الحياة السياسية، وتعبر عن مدى جدية الإصلاحات الديمقراطية التي يجري العمل بها في أي بلد من البلدان. بالرغم من أن الأحزاب السياسية لا تشكل اللاعب السياسي الوحيد في الأنظمة الديمقراطية، إلا أنها تعتبر عنصرا أساسيا، بل من أهم اللاعبين المؤثرين في الحياة العامة، إذ لا يمكن تجاهل دور الأحزاب في تفعيل المساءلة السياسية، وحشد أو تنشيط الحراك الشعبي، ورفع مستوى الوعي السياسي للمواطنين، وتشكيل وبلورة السياسات العامة التي تستشف وتعكس نبض الجماهير. فأثناء الحملات الانتخابية، على سبيل المثال، تقوم الأحزاب السياسية بمحاولات حثيثة لتطوير وطرح برامج بديلة للبرنامج الحاكم، تنبثق من احتياجات المواطنين، وتعبر عن رؤى الجماهير لكسب ثقتهم والحصول على صوتهم الانتخابي. وهذا ما يساهم في رفع مستوى المشاركة في الحوار السياسي، وفي عملية بلورة السياسات، كما يدفع المسئولين الرسميين، الذين يطمحون دائما للحصول على ثقة الناخبين، لأن يكونوا أكثر استجابة وتفهما لاحتياجات المواطنين، الأمر الذي يجعل عملية تشكل وتبلور السياسات العامة أمرا ظاهرا للعيان أمام الرأي العام. وما لم تكن هناك ضمانات قانونية لحرية الأحزاب والحركات السياسية في التنظيم واختيار المرشحين والقيام بالحملات الانتخابية بشكل مستقل، فإنه لا يمكن اعتبار العملية الانتخابية بأنها ديمقراطية وتتمتع بالنزاهة والشفافية.
تعود بداية العمل بنظام تعدد الأحزاب السياسية في مصر إلى عهد الرئيس أنور السادات، إثر تفكيك الاتحاد العربي الاشتراكي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وأصبح هذا النظام رسميا مع إقرار قانون الأحزاب لعام 1977 . وقد قام الرئيس مبارك بترسيخ وتوطيد البنية السلطوية لهذا النظام، الذي افتقد منذ بدايته إلى مقومات التنافس الحر، عبر فرض قوانين جديدة مقيدة للحياة السياسية كلما دعت الضرورة للحفاظ على الوضع القائم. وهكذا فإن النظام المصري يقوم بالسيطرة على النشاط السياسي للأحزاب، من خلال قانون الأحزاب (رقم 40 لعام 1977، وقانون رقم 177 لعام 2005) الذي ينظم، بشكل لا يخلوا من الضبابية، الأسس التي يجب أن تقوم عليها عملية تشكيل الأحزاب، ومباشرة النشاط السياسي والحزبي . وبناء على هذا القانون (مادة 7 و8)، لكي يحصل أي حزب على ترخيص قانوني، يجب عليه الحصول على موافقة لجنة شؤون الأحزاب السياسية. كما تشترط المادة (4) "عدم تعارض مبادئ الحزب أو أهدافه أو برامجه أو سياساته أو أساليبه في ممارسة نشاطه مع الدستور أو مع مقتضيات الحفاظ علي الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي والنظام الديمقراطي". يمنع القانون أيضا قيام الحزب أو مباشرة نشاطه "علي أساس ديني، أو طبقي، أو طائفي، أو فئوي، أو جغرافي" (مادة 4).
لذلك فإن لجنة شؤون الأحزاب السياسية تستغل ضبابية هذا القانون في تضييق قنوات المشاركة السياسية، من خلال رفض طلبات تشكيل الأحزاب الجديدة، أو تجميد عمل الأحزاب القانونية المعارضة. فعلى سبيل المثال، منذ قيامها إلى أن تم الترخيص لحزب الوفاق القومي عام 2000، قامت لجنة شؤون الأحزاب برفض ما يقارب خمسين طلبا لتشكيل أحزاب جديد. بالرغم من أن عدد الأحزاب الرسمية قد ارتفع في عهد الرئيس مبارك من خمسة إلى أربعة وعشرين، فإن عدد الأحزاب التي تم ترخيصها بموافقة لجنة شؤون الأحزاب لا يتجاوز الخمسة من هذه الأحزاب التي بقيت الغالبية العظمى منها هامشية وضعيفة، إن لم نقل عديمة، الجدوى . فمعظم هذه الأحزاب حصلت على الترخيص بعد صراع طويل في المحاكم المصرية، فضلا عن أن عشرات الأحزاب، التي رفضت طلباتها، ما زالت محرومة من المشاركة السياسية. ففي شهر كانون الأول من العام 2007 وحده، خسر اثنا عشر حزبا، أهمها حزبي الوسط والكرامة، قضيتهم أمام المحكمة الإدارية العليا ضد لجنة شؤون الأحزاب، التي رفضت الموافقة على طلباتهم. وقد انتقد كل من أبي العلا ماضي، رئيس حزب الوسط، وحامدين صباحي، رئيس حزب الكرامة، قرار المحكمة الذي وصفاه بأنه سياسي، كما دعيا إلى إزالة لجنة شؤون الأحزاب "المملوكة" بشكل تام من قبل الحزب الوطني الحاكم، حسب رأي السيد صباحي . يتضح، بناء على ذلك، أن لجنة شؤون الأحزاب لا تمنح تراخيص إلا للأحزاب الهامشية، التي تفتقر إلى قاعدة شعبية، ولا تشكل أي تهديد لهيمنة الحزب الحاكم على الحياة السياسية . بتعبير آخر، فإن النظام الحاكم في مصر يختار معارضته بنفسه، وبشكل انتقائي وحذر جدا.
إضافة إلى أن القيود القانونية عملت على الحيلولة دون مشاركة تيارات واسعة، كالتيار الإسلامي، في العمل السياسي الرسمي، فإن تدخل السلطة في الشئون الداخلية للأحزاب الرسمية المعارضة كرس تهميش هذه الأحزاب، وأبقى عليها ضعيفة وخاضعة لإرادة النظام الحاكم. أما في الحالات الاستثنائية التي كانت تبدي فيها بعض الأحزاب الرسمية معارضة صريحة، واستقلالية حقيقية، فإنها غالبا ما كانت تواجه بالحل أو بالتجميد القانوني لجميع نشاطاتها. فقد سبق للجنة شؤون الأحزاب أن جمدت نشاط أكثر من سبعة أحزاب، أربعة منها مازالت مجمدة حتى الآن. بل إن النظام كثيرا ما يتجاهل الأحكام القضائية، التي تحكم برفع الحظر عن الأحزاب المجمدة، والسماح لها بالعودة إلى ممارسة نشاطها، كما حصل بالنسبة لحزب العمل الذي مازال مجمدا حتى الآن .
المفضلات