نظريات الشيخ أبو مسلم
هل هي تدليس غير مقصود ...؟
المعروف أن الكتابة صنو السماع والقراءة, فالإنسان يكتب ما يسمع وما يتلى عليه في عملية، ثم هو يقرأ ويتلو ما كتب في عملية عكسية أخرى ينبغي أن تكون ترجمة للكلام الذي قرأ أو تلي عليه في البداية. وقد انتبه علماء المسلمين إلى هذه الاختلافات الكتابية لنفس الكلمات الدالة على نفس المعاني، وعزوها دائما إلى اختلاف لغات وأصوات العرب، فقد تكتب كلمة في موضع من مواضع القرآن الكريم بشكل، وتكتب في موضع آخر بشكل آخر، لا بل إن الكلمة نفسها قد تكتب في إحدى نسخ القرآن الكريم بشكل وتكتب في نسخة أخرى بشكل آخر من أجل التوفيق بين القراءات المختلفة.
لقد نزل القرآن الكريم وفَقَ سَنَن لسان العرب ولغتهم، لذلك فإننا لم نسمع أن أحدا من المسلمين أو من الكافرين اعترض على كلام لم يفهمه مما ورد فيه من الكلام، والقرآن الكريم هو الكلام المرتل المقروء، فلم ينزل مكتوبا، والمفروض في الكلام (أي كلام) أن يفهم حال سماعه من خلال أصوات الكلمات المحفوظة في القلوب، من دون حاجة إلى النص المكتوب لأن المعاني موجودة في تلك الأصوات، وليست موجودة في الكتابات التي اخترعها الإنسان من أجل تسجيل تلك الأصوات وحفظها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ ولو أصاب) وهذا الحديث رواه الترمذي بألفاظ مختلفة منها: "فليتبوأ مقعده من النار". والمقصود من الحديث التحذير من تفسير القرآن بغير علم. قال ابن تيمية -رحمه الله-: فمن قال في القرآن برأيه، فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أُمِر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ، لأنه لم يأتِ الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب. مجموع الفتاوى (13/371). والأصل في تفسير القرآن أن يفسر بالقرآن، أو بالحديث النبوي، ثم بأقوال الصحابة، وإن لم يجد في تفسير الصحابة، فقد رجع كثير من أئمة التفسير إلى أقوال التابعين كمجاهد وغيره، فمن خالف هذه الأصول فهو مخطئ وإن أصاب، وليس من التفسير بالرأي المجرد ما كان جارياً على قوانين العلوم العربية، والقواعد الأصلية والفرعية.
يحزنني أن أرى أخي أبو مسلم وهو يضيف منهجا جديدا محدثا من مناهج التفسير لم يرد عن رسول الله أو صحابة رسول الله ولا عن التابعين ولا عن تابيعيهم، ويؤسفني أن أراه يسير على خطى بعض المدلسين الذين يتصدون إلى تفسير آيات كتاب إعجازي كالقرآن العزيز بهذه الطريقة التي ليس لها أساس في العلوم التي انتقلت إلينا كابرا عن كابر، وأستغرب منه (وهو الرجل الورع التقي النقي) أن يدخل إلى تفسير القرآن الكريم من هذا الباب المحدث الذي لم يردنا عن الرسول وعلماء المسلمين، وكأن الفهم الذي جاء به قد فات الصحابة والتابعين وتابعيهم من العرب الخُلَّص ومواليهم، وكأن الفهم الذي جاء به قد فات جميع واضعي فنون هذه اللغة لضبط ألفاظها ومعانيها وفلسفتها وآدابها وأسرار بلاغتها، وجميع من فسر القرآن من السلف والخلف.
هذا والله تفسير عشوائي للقرآن واللغة، وهذا التفسير بهذه الطريقة المحدثة غير مقبول للأسباب المذكورة آنفا لأنه يعني في جانب منه طعنا من دون أساس في علماء الدين وعلماء اللغة الفطاحل، وهذا التفسير من شأنه إثارة البلبلة، بل إنه قد يتخذ ذريعة (لا قدر الله) لإسقاط الاستشهاد بالسابقين، وإسقاط حجية كتب الفقه والتفسير والمعاجم، وبالتالي إسقاط كل فهم سوي للقرآن الكريم، بحيث تختلط الأمور ويصبح الحرام حلالاً والحلال حراماً.
يقول الشيخ أبو مسلم (حماه الله): "ويعود السر في بسط تاء جنة الواقعة إلى فرق الدلالة ما بين التاء المقبوضة والمبسوطة؛ التاء المقبوضة من طريقة رسمها كالصرة المربوطة، إن لم يكن ما بداخلها مجهولاً بالكلية فبعضه مجهول أو جوانب منه".
لو كان هذا الإدعاء صحيحا لوجب أن يكون استخدامه عاما، ولكنا رأيناه يطبق (ولو بشكل محدود) قي كافة مواضع التاء سواء أكانت في بداية الكلمة أو في وسطها أو في نهايتها. فلا يعقل أن ينحصر هذا الفرق الدلالي المزعوم في نهاية بعض الكلمات فقط، ولا يكون في كافة الكلمات المحتوية على حرف التاء (أو في بعضها على الأقل) في المواضع الأخرى.
أرجو أن يفسر لي الشيخ أبو مسلم بنظريته هذه لماذا تأتي التاء مبسوطة في بدايات كل الكلمات المبتدئة بالتاء بدون استثناء؟ وأرجو أن يفسر لي الشيخ أبو مسلم أيضا بنظريته هذه لماذا تأتي التاء مبسوطة في كل الكلمات التي تتوسطها التاء بلا استثناء؟ أقصد لماذا لا يكون للتاء شكلان في كل المواضع ..؟ وما دام في اختلاف شكل التاء سر دلالي كما تزعمون فلم لا نراه مستخدما أو مطبقا في كافة المواضع ...؟!
ترى ما السر في كتابة (جنات) بالتاء المبسوطة وعدم كتابتها بالتاء المربوطة هكذا (جناة) ...؟
ترى ما السر في كتابة (جنتان) بالتاء المبسوطة وعدم كتابتها بالتاء المربوطة هكذا (جنة تان) ...؟
ترى ما السر في كتابة (جنتين) بالتاء المبسوطة وعدم كتابتها بالتاء المربوطة هكذا (جنة تين) ...؟
ترى ما السر في كتابة (جنتك) بالتاء المبسوطة وعدم كتابتها بالتاء المربوطة هكذا (جنة تك) ...؟
ترى ما السر في كتابة (جنتي) بالتاء المبسوطة وعدم كتابتها بالتاء المربوطة هكذا (جنة تي) ...؟
ترى هل ينوي أخي أبو مسلم أن يضع لنا تفسيرا جديدا للقرآن الكريم يفسر لنا فيه لماذا كتبت كل هذه التاءات بشكل مبسوط ولماذا لم يكتبها أحد بشكل مربوط ...؟ أم أن هذا الفرق الدلالي محصور بالكلمات التي ذكر؟ وما هو المنطق الذي يدعوه إلى انتقاء التاءات المبسوطة في بعض المواضع وتقعيدها في حين يتجاهل هذا الكم الكبير من التاءات المبسوطة أو المختلفة الشكل في كل مكان من القرآن الكريم ...؟
أخي أبو مسلم،
أعتقد أنني لم أكن لأهتم لو أنك طبقت نظرياتك هذه على أية نصوص عربية غير القرآن الكريم، لكنك آثرت أن تنطلق من القرآن الكريم مخالفا ومنتهكا كل ما تعارف عليه المسلمون من أسس وأصول معتمدة للتفسير.
هذا الكلام ينسحب على معظم بحوثك وعلومك الجديدة المحدثة، لذلك فإنني أدق ناقوس الخطر هنا وأنبهك إلى أن دعواك هذه فيها تدليس وتحريف وتأويل للقرآن الكريم ومعانيه.
هذا رأيي واجتهادي والله أعلم، وأسأل الله لي ولكم الهداية.
منذر أبو هواش
:cool:
المفضلات